أَجهاد على غير سنة ووحدة على غير عقيدة؟!
(نظرة في بيان الاثني عشر عمَّا يسمى الجهاد في العراق)
أصدر اثنا عشر من طلاب العلم الشرعي، أو طلاب الفكر الإسلامي غير الشرعي، أو طلاب الخلط بينهما؛ بياناً من السّعوديّة دون استشارة كبار علمائها، ولا استئذان ولاة الأمر فيها ـ فيما ظهر منهم ـ، ولا موافقة لقول الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، ولا اتّباع لشرع الله في أمر الجهاد ولا في أمر الوحدة، وإذا كانت المقدمة فاسدة فلا عجب أن تكون العاقبة كاسدة. وبما أن أمر العاقبة لله وحده لا يَدَ للعبد فيها ولا حَوْل لمخلوق ولا قوّة إلا بالله فسنقصر البحث على المقدّمة وحدها بما يمكن من إيجاز وبالله التوفيق:
أ- للجهاد لفظ ومعنى توقيفيّ أوحى الله تعالى به إلى قلب نبيه صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسّنة لا يجوز أن ينازعه الفكر (ولو سُمِّي ـ خطأ ـ إسلامياً) سواء بما يسمى الاستحسان (وهو طريق الابتداع والضّلال) أو بما يُسَمّى الاجتهاد من أهل الفقه (فكيف به من أهل الفكر خالصاً أو مختلطاً بالفقه)، والجهاد بمعنى القتال هو آخر مراحل الدعوة إلى الله على بصيرة بالحكمة والموعظة الحسنة وغايته: أن تكون كلمة الله هي العليا، وحتى لا تكون فتنة ويكون الدّين كله لله، ولا يجوز أن يخالطه الاعتداء ولا الظلم ولا الغدر ولا الخيانة حتى لو كان العدوّ مُشْركاً صدّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن المسجد الحرام. قال الله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2]. وقال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]. وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل للمغنم وعن الرجل يقاتل لِيُذْكر، والرجل يقاتل ليُرَى مكانه، وعن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حميّة ويقاتل رياء، وعن الرجل يقاتل غضباً فكان جوابه في كلّ حال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم بمن يجاهد في سبيله والله أعلم بمن يُكْلَم في سبيله" متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم عن أحد المقاتلين في صفّه: "أما إنه من أهل النار" متفق عليه، مع أنه كان من أشدِّهم قتالاً حتى قال بعض الصّحابة: (ما أجزأ منَّا اليوم أحد كما أجزأ فلان) لأنه قتل نفسه.
ب- هل مرّ المجاهدون العصريّون بالمراحل التي مرّ بها الجهاد الحقيقي في زمن النّبوّة والصّحبة بأمر الله تعالى؟ هل دعت (القاعدة) في السّودان وأفغانستان والصومال ومن سار على منوالها في العراق (التي خصّتها البيان) وغيرها، هل دعت إلى إفراد الله بالعبادة أو نَفَتْها عن المقامات والمزارات والمشاهد (السّنية أو الشيعيّة أو اليهودية أو النصرانية)؟ بل هل دعا سَلَف (القاعدة) ومن سار على منوالها (وجل المجاهدين العصريّين منهم وأكثر موقعي البيان أو كلهم ـ في رأيي ـ منهم أو مُقِرّ لهم) هل دعوا إلى صرف العبادة كلها (ومنها الدعاء أو طلب المدد) لله وحده وصرفها عن الأوثان التي ولدوا وعاشوا وماتوا بينها؛ مثلما أو قريباً مما اهتّموا به من منازعة الأمر أهله؟ من يقرأ رسائل ومذكرات حسن البنا وكتب سيّد قطب وكتب تقي الدّين النّبهاني تجاوز الله عنهم جميعاً يعرف أن الجواب الحق على هذين السؤالين: النفي القاطع.
جـ- الجهاد الوهمي (والإجرامي أحيانا بل غالباً) المعاصر يبدأ بالقتال ولا شأن له بالدعوة إلى الله على بصيرة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه وصحابته وتابعوهم رضي الله عنهم واستمرّت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بضع عشرة سنة قبل أن يأذن الله له بالقتال.
والقتال بعد الإذن به لم يكن فيه غدر ولا اعتداء ولا خيانة ولا قَتْل للنّفس (كما ثبت في حديث الصحيحين) ولا قتل للنّفس التي حرم الله إلا بالحق بالتفجير في الأسواق والمكاتب والحافلات والمطاعم العامّة. والجهاد الوهمي (أو الإجرامي) لا يختار قدوته من بين من ثبتت ولايتهم لله، وثبت أنهم أهل للاقتداء بهم؛ بل مثل المعتصم تجاوز الله عنه الذي حرص مثل سلفه وخلفه على فتنة علماء المسلمين وعلى رأسهم الإمام أحمد رحمه الله عن صحيح المعتقد إلى فكر الاعتزال، وجرّ جيش المسلمين إلى بلاد الرّوم حميّة لاسمه واستجابة لرواية مجهولة عن امرأة مجهولة استغاثت به من دون الله، والاستغاثة بالميت والغائب شرك بالله. ومثل عزّ الدّين القسّام رحمه الله الذي تقول عنه بعض الكتب أنه كان رئيساً للطريقة الشاذلية (وإن حاول أحد المحدّثين في الأردن سَرِقَته من الحزبيين والحركيين لأنه وافق القصّاب رحمه الله مرّة على نهيه عن رفع الصّوت مع الجنازة، وشلتوت رحمه الله خير منه في كتابه عن النهي عن البِدَع عامة).
بل مثل صلاح الدّين رحمه الله الذي سخره الله لاسترداد بيت المقدس من النّصارى لكنه أبقى على أوثان ولاته الفاطميين في مصر بل زادها وثناً باسم الشافعي رحمه الله (كما يقول السّيوطي رحمه الله في تاريخ الخلفاء).
د- والوحدة التي يطالب بها موقّعوا البيان وكاتبوه لم تأخذ في حسابها الاعتقاد (صحةً أو فساداً) المهمّ توحيد الكلمة وتوحيد الصّفّ لا توحيد الاعتقاد (فيما تعوّدناه من الحركيين والحزبيين والفكريين)، وشريعة الله غير ذلك؛ فالله يأمر بالتّعاون على البر والتقوى وينهى عن التعاون على الإثم والعدوان في كلّ حال ولو في معاملة العدوّ كما يدل السّياق.
هـ- وخرج موقعوا البيان عن مألوف الحركيين والحزبيين فذكروا عدداً من الآيات والآثار ولكن في غير محلها غالباً، فالله تعالى قيّد الاعتصام بحبل الله، والفتنة (مقدّمة ونتيجة) هي ما يقع فيه اليوم من يسمّون بالمجاهدين والشهداء تجاوز الله عنا وعنهم بل هي فتنة عمياء لا يدري القاتل من يموت بسلاحه ولا يدري المقتول من قَتَله ولو أدرك أحدهما الحقيقة لعرف أن الغاية ليست إعلاء كلمة الله بل هي الحقد والغضب بل والمغنم للحزب المحرِّك سمعة أو سلطاناً ـ كما يظهر منهم منذ ابْتُلي الإسلام والمسلمين بهم ـ.
و- وختم موقعوا البيان وكاتبوه بيانهم بالدعاء أن يجعل الله هذا الجهاد لتكون كلمة هي العليا، وجزاهم الله خيراً على ذكر ذلك ولو آخراً، ولو كانت أكبر الهمّ لكانت أولاً، ولكنهم وضعوا الأمر في نصابه الحزبي والحركي، ولم نتعوّد من مرسلي البيان أو المرسَل إليهم التركيز على الاعتقاد والاتباع أوّلاً ولا على الغاية الشرعيّة للجهاد أولاً، بل ولا على منهاج النبوّة أولاً، بل على منهاج فلان أو فلان ممن نظن بهم حسن النيّة وسوء العمل. ردّ الله الجميع إلى دينه ردّاً جميلاً وهداهم لأقرب من هذا رشداً