الفصل الأول
تحذير أهل السنة من البدع وأهلها
لقد منّ الله - U - على الناس أجمعين بأن بعث إليهم رسله مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
فبدأهم الله - تعالى - بنوح عليه السلام، ثم ختمهـم ببعثـة نبي الرحمة والمغفرة، نبي هذه الأمة محمد - r - فأكمل الله به الدين وأتم به النعمة، فلم ينتقل إلى الرفيق الأعلى، إلا وقد أدى الذي عليه أكمل الأداء، وبلغ البلاغ المبين، وأقام الحجة، وأوضح المحجة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
وكـان – r - حريصاً على هداية أمته، عزيزاً عليه ما يعنتهم ويشـق عليهم، كما قال تعالى:
{لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} ([1])، ومن حرصه على أمتـه؛ أنه لم يتـرك باباً من أبواب الخير إلا دلهم عليه، ولم يترك باباً من أبواب الشر إلا حذرهم منه، وبيّن لهم طرق إتيان الخير، وطرق اجتناب الشر.
ومن أعظم تلك الشرور التي انتشرت في الأمة، وتفاقم أمرها، والتبست على كثير من الناس: البدع المضلة وهي: "طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعيّة"([2])، ففيها الاستدراك على الله، وادعـاء عدم كمال الدين، فكـان – r - في كل خطبة يحـذر منها فيقـول: ((
وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار )).ومن ذلك ما جاء عن أبي هريرة - t - قال: قال رسول الله – r -:((
سيكون في آخر أمتي ناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم )) ([3]).وعن عائشة – رضي الله عنها – قالـت: ((
تـلا رسول الله –r - هذه الآية{ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغـاء تأويلـه وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنـا به كل من عنـد ربنا وما يذكر إلا أولو الألبـاب}([4])، قالت: قال رسول الله –r -:(( فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منـه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ))([5]).فبين لنا نبينا – r - أن طريق النجاة من البدع هو الحذر والتحذير منها، واجتنابها واجتناب أهلها وهجرهم.
فهجر أهل البدع ومنابذتهم من أعظم أصول الدين التي تحفظ على المسلم دينه وتقيه شر مهالك البدع والضلالات.
كيف لا، وقد أوضح الله - U - هذا الأصل العظيم في كتابه حيث قال: {
وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعـرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} ([6]).
وقال تعالى:
{وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيـات الله يكفر بها ويستهزأ بهـا فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم، إن الله جامـع المنافقـين والكافريـن في جهنم جميعاً} ([7]).
قال ابن عون: كان محمد بن سيرين - رحمه الله تعالى – يرى أن أسرع الناس ردة أهل الأهـواء، وكان يرى أن هذه الآية أنزلـت فيهم:{
وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم} ([8]).
وعن ليث بن أبي سُليم عن أبي جعفر قال: (( لا تجالسوا أهل الخصومات، فإنهم الذين يخوضون في آيات الله )) ([9]).
وقال الإمام محمد بن جرير الطبري في تفسيره([10]): (( وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع من المبتدعة والفسقة عند خوضهم في باطلهم )).
ولهذا اهتم السلف بهذا الأصل العظيم وهو هجر أهل البدع أعظم اهتمام، وأولـوه بالغ العناية، فسيرتهم مليئة بهجر أهل البدع، وإخزائهم، وإذلالهم، ولو أردت أن أنقل ما جاء عنهم في ذلك لبلغ مجلداً، بل مجلدات.
وإن الناظر إلى النّاس طيلة حياة النبي - r -، وطيلة خلافة الشيخين أبي بكر وعمر فسيجد أنهم متّبعون لكتاب ربهم ومقتفون لسنّة نبيهم -r- لا تعرف البدع إليهم طريقاً ولا التكلف والتعمق إلى نفوسهم سبيلاً إلا ما كان من حالات فرديّة يقضى عليها في مهدها من قبل النبي - r - وخلفائه فما تلبث أن تخمد وتنطفئ. ([11])
ثم بدأت تظهر بوادر الفتن في آخر عهد عثمان - t -.
ثم ظهـرت في خلافة علي - t - أول فرقتين مبتدعتين وهما الخوارج والشيعة، ثم تلا ذلك ظهور القدريّة وغيرهم.
فواجه الصحابـة والتابعون هذه الفرق المبتدعة مواجهة حاسمة بالسيف واللسان، فحذروا الناس منهم وتبرؤوا من البدع وأهلها وهجروهم ونهروهم ونابذوهم.
ومـا ذلك إلا اتّباعـاً للطريقة الشرعيّـة التي وضحهـا الله ورسـولـه -r-كمـا سبـق بيانـه، فهـم متمسكـون بكتـاب ربهم وبسنـّة نبيّهم - r -.
فهذا ابن عمر - t - حين سئل عن القدرية قال: ((
فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني )) ([12]).وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -:
(( لا تجالس أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلوب )) ([13]).
وعن عطـاء - رحمه الله- قـال: أتيت ابن عباس-رضي الله عنهما- وهو ينـزع في زمزم قد ابتلت أسافل ثيابه فقلت: قد تُكلم في القدر.
قال: أوَ قد فعلوها؟. فقلت: نعم.
قال:(( فوالله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم{
ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر }، أولئك شرار هذه الأمة، لا تعودوا مرضاهم، ولا تصـلوا على موتاهـم، إن أريتني أحدهم فقأت عينيه بأصبعي هاتين))([14]).
وكتب عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- رسالة إلى عدي بن أرطأة يقول فيها:
(( أما بعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو.
أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، واتباع سنة نبيه -r- وترك ما أحدث المحـدِثون مما قد جرت سنته، وكفوا مؤنته، فعليك بلزوم السنة، فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق، فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ قد كفوا، ولهم كانوا على كشف الأمور أقوى وبفضل لو كانوا فيه أحرى، فلئن قلتم: أمر حدث بعدهم، ما أحدثه بعدهم إلا من اتبع غير سنتهم، ورغب بنفسه عنهم، إنهم لهم السابقون، فقد تكلموا منه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم مقصر، وما فوقهم محسر، لقد قصر عنهم آخرون فضلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم
))([15])
وعن أبي قلابة قال: (( لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم؛ فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما تعرفون )) ([16])
وعـن عمرو بن قيس الملائي قال: (( لا تجالس صاحب زيغ فيزيغ قلبك)) ([17])
وقال إبراهيم النخعي: (( لا تجالسوا أهل الأهواء فإن مجالستهم تذهب بنور الإيمان من القلوب، وتسلب محاسن الوجوه، وتورث البغضة في قلوب المؤمنين )) ([18])
وقـال مجاهـد: (( لا تجالـس أهل الأهواء فإن لهم عرّة كعرة الجرب))([19])
وقال إسماعيل بن عبيد الله: (( لا تجالس ذا بدعة فيمرض قلبك، ولا تجالس مفتوناً فإنه ملقّن حجته )) ([20])
وقال مفضل بن مهلهل: (( لو كان صاحب البدعة إذا جلست إليه يحدثك ببدعته حذرته وفررت منه، ولكنه يحدثك بأحاديث السنّة في بدو مجلسه ثم يدخل عليـك بدعته فلعلها تلزم قلبك فمتى تخرج من قلبك))([21])
وعن هشام بن حسان قال: (( كان الحسن ومحمد بن سيرين يقولان: لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم )) ([22]).
وقال حنبل بن إسحاق: سمعت أبا عبد الله يقول: (( أهل البدع ما ينبغي لأحد أن يجالسهم ولا يخالطهم ولا يأنس بهم
)) ([23]).
وعن ثابت بن عجلان قال : (( أدركت أنس بن مالك وابن المسيب والحسن البصري وسعيد بن جبير والشعبي وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وطاووس ومجاهد وعبد الله بن أبي مليكة والزهري ومكحول والقاسم أبا عبد الرحمن وعطاء الخراساني وثابت البناني والحكم بن عتيبة وأيوب السختياني وحماد ومحمد بن سيرين وأبا عامر - وكان قد أدرك أبا بكر الصديق - ويزيد الرقاشي وسليمان بن موسى، كلهم يأمروني بالجماعة وينهوني عن أصحاب الأهواء )) ([24]).
والآثـار عن السلف في معاملة أهل البدع والتحذير من البدع وأهلها كثيرة جداً، فالسلف - رحمهم الله - على هذا مجمعون متفقون في كل الأعصار والأمصار، وقد نقل هذا الإجماع عدد من أهل العلم، وقد أفردت له فصلاً مستقلاً.
وقد سار السلف من المتقدمـين ومن بعدهم من المتأخرين في التحذير من البدع والتحذير من أهلها على حدّ سواء، فلم يقتصروا على التحذير من البدع وتركوا أهلها على طريقتهم سائرين، ولبدعهم مروّجين.
فإن هذه البدع لا تسير وحدها، بل لا بد لها من مسيّر ومروّج، فلزم من التحذير من البدعة التحذير من أهلها، فإذا قمع أهلها وزجروا وهجروا مات ما يحملون من بدع وهوى، ولم يتمكنوا من نشرها والدعوة إليها.
وقد ظهر في زماننا هذا أقوام، حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون بقول محدث لم يأت به الأولون، فقالوا حذّر من البدع ولا تحذّر من صاحبها ولا تتكلم فيه.
وما قصدوا بذلك إلا إغلاق باب التحذير من أهل البدع ليسلم لهم أئمتهم وقادتهم، ولينشروا من بدعهم ومناهجهم المحدثة ما يريدون.
فالنبي - r- هو الذي شرع لأمته التحذير من أهل البـدع بأعيانهم، فقد أشار النبي - r- إلى ذي الخويصرة بقوله:((
إنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، فيقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرميّـة … )) الحـديث ([25])، ففي قوله ( هذا ) تعيين له وتحذير منه بعينـه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (( فلا بد من التحذير من تلك البدع وإن اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم )) ([26]) .
وتحذيـر السلف من أهل البدع بأعيانهم كثير جداً، وما حملهـم على ذلك إلا النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فهذا إمام دار الهجرة مالك بن أنس - رحمه الله - حذّر من أهل البدع بأعيانهم.
(1) كما قال عبد الرحمن بن مهدي: دخلت عند مالك وعنده رجل يسأله عن القرآن، فقال: (( لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد، لعن الله عمراً فإنه ابتدع هذه البدعة من الكلام … )) ([27]).
(2) وقال: (( إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنّة )) ([28]).
(3) وقال ابن أبي زيد: قال رجل لمالك: يا أبا عبد الله
{ الرَّحمنُ عَلَى العَرْشِ استَوَى} كيف استوى؟
قـال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب، وأراك صاحب بدعة وأمر بإخراجه ([29]).
وهذا إمام أهل السنّة أحمد بن حنبـل - رحمه الله - جاء عنه التحذير مـن أهل البدع بأسمائهم في كثير من أقواله وما ذلك إلا نصيحة لدين الله، قال ابن الجوزي - رحمه الله -:
(( وقد كان الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل لشدّة تمسكه بالسنّة ونهيه عن البدعة يتكلم في جماعة من الأخيار إذا صدر منهم ما يخالف السنّة، وكلامه محمول على النصيحة للدين )) ([30])، فمن ذلك:
(1) عن أبي مزاحم موسى بن عبيد الله بن خاقان قال: قال لي عمي أبو علي عبد الرحمن بن يحيى بن خاقان قال: أمر المتوكل بمسألة أحمد بن حنبل عمن يتقلد القضاء؟ فسألته.
قال أبو مزاحم: فسألته أن يخرج إلي جوابه، فوجه إلي بنسخة فكتبها ثم عدت إلى عمي فأقرّ لي بصحة ما بعث به.
وهذه نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم، نسخة الرقعة التي عرضتها على أحمد بن محمد ابن حنبل بعد أن سألته عما فيها فأجابني عن ذلك بما قد كتبته، وأمر ابنه عبد الله أن يوقع بأسفلها بأمره، ما سألته أن يوقع فيها:
سألت أحمد بن حنبل عن
أحمد بن رباح، فقال فيه: إنه جهمي معروف بذلك، وإنّه إن قلّد القضاء من أمور المسلمين كان فيه ضرر على المسلمين لما هو عليه من مذهبه وبدعته.
وسألته عن
ابن الخلنجي، فقال فيه - أيضاً - مثل ما قــال في أحمــد ابن رباح وذكر أنه جهمي معروف بذلك، وأنّه كان من شرهم وأعظمهم ضرراً على الناس.
وسألته عن
شعيب بن سهل، فقال فيه: جهمي معروف بذلك.
وسألته عن
عبيد الله بن أحمد، فقال فيه: جهمي معروف بذلك.
وسألته عن المعروف
بأبي شعيب، فقال فيه: إنّه جهمي معروف بذلك.
وسألته عن
محمد بن منصور قاضي الأهواز، فقال فيه: إنه كان مع ابن أبي دؤاد وفي ناحيته وأعماله، إلا أنه كان من أمثلهم ولا أعرف رأيه.
وسألته عن
ابن علي بن الجعد، فقال: كان معروفاً عند الناس بأنه جهمي مشهور بذلك، ثم بلغني عنه الآن أنه رجع عن ذلك.
وسألته عن
الفتح بن سهل صاحب مظالم محمد بن عبد الله ببغداد، فقال: جهمي معروف بذلك، من أصحاب بشر المريسي، وليس ينبغي أن يقلّد مثله شيئاً من أمور المسلمين لما في ذلك من الضرر.
وسألته عن
ابن الثلجي، فقال: مبتدع صاحب هوى.
وسألته عن
إبراهيم بن عتّاب، فقال: لا أعرفه إلا أنه كان من أصحاب بشر المريسي، فينبغي أن يحذر ولا يقرّب، ولا يقلّد شيئاً من أمور المسلمين.