بسم الله الرحمن الرحيم
قاعدة أهل السنة والجماعة في رحمة أهل البدع والمعاصي ومشاركتهم في صلاة الجماعة
قال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن تيمية رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه)قال ابن عباس وغيره: تبيض وجوه أهل السنة، والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة(فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون، وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون). وفي الترمذي عن أبي أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الخوارج " أنهم كلاب أهل النار " وقرأ هذه الآية(يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) قال الإمام أحمد: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه. وقد خرجها مسلم في صحيحه، وخرج البخاري طائفة منها. قال النبي صلى الله عليه وسلم " يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم. وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم. يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية - وفي رواية - يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان " .
والخوارج هم أول من كفر المسلمون بالذنوب. ويكفرون من خالفهم في بدعتهم ويستحلون دمه وماله. وهذه حال أهل البدع يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم في بدعتهم. وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة ويطيعون الله ورسوله، فيتبعون الحق، ويرحمون الخلق.
وأول بدعة حدثت في الإسلام بدعة الخوارج والشيعة، حدثتا في أثناء خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فعاقب الطائفتين. أما الخوارج فقاتلوه فقتلهم، وأما الشيعة فحرق غاليتهم بالنار وطلب قتل عبد الله بن سبأ فهرب منه، وأمر بجلد من يفضله على أبي بكر وعمر. وروي عنه من وجوه كثيرة أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر. ورواه عنه البخاري في صحيحه.
ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يصلون الجمع والأعياد والجماعات، لا يدعون الجمعة والجماعة كما فعل أهل البدع من الرافضة وغيرهم، فإن كان الإمام مستوراً لم يظهر منه بدعة ولا فجور صلي خلفه الجمعة والجماعة باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين، ولم يقل أحد من الأئمة أنه لا تجوز الصلاة إلا خلف من علم باطن أمره، بل ما زال المسلمون من بعد نبيهم يصلون خلف المسلم المستور، ولكن إذا ظهر من المصلي بدعة أو فجور وأمكن الصلاة خلف من يعلم أنه مبتدع أو فاسق مع إمكان الصلاة خلف غيره، فأكثر أهله العلم يصححون صلاة المأموم، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد. وأما إذا لم يمكن الصلاة إلا خلف المبتدع أو الفاجر كالجمعة التي إمامها مبتدع أو فاجر وليس هناك جمعة أخرى فهذه تصلى خلف المبتدع والفاجر عند عامة أهل السنة والجماعة. وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة أهل الإسلام بلا خلاف عندهم.
وكان بعض الناس إذا كثرت الأهواء يحب أن لا يصلي إلا خلف من يعفه على سبيل الاستحباب، كما نقل ذلك عن أحمد أنه ذكر ذلك لمن سأله. ولم يقل أحد أنه لا تصح إلى خلف من عرف حاله.
ولما قدم أبو عمرو عثمان بن مرزوق إلى ديار مصر وكان ملوكها في ذلك الزمان مظهرين للتشيع، وكانوا باطنية ملاحدة، وكان بسبب ذلك قد كثرت البدع وظهرت بالديار المصرية - أمر أصحابه أن لا يصلوا إلا خلف من يعرفونه لأجل ذلك ثم بعد موته فتحها ملوك السنة قبل صلاح الدين وظهرت فيها كلمة السنة المخالفة للرافضة، ثم صار العلم والسنة يكثر بها ويظهر.
فالصلاة خلف المستور جائزة باتفاق علماء المسلمين، ومن قال أن الصلاة محرمة أو باطلة خلف من لا يعرف حاله فقد خالف إجماع أهل السنة والجماعة. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يصلون خلف من يعرفون فجوره، كما صلى عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وقد كان يشرب الخمر وصلى مرة الصبح أربعاً وجلده عثمان بن عفان على ذلك. وكان عبد الله بن عمر وغيره من الصحابة يصلون خلف الحجاج بن يوسف. وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف ابن أبي عبيد وكان متهماً بالإلحاد وداعياً إلى الضلال.
ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم.
هذا ما أن الله أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن البدعة والاختلاف، وقال (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة "وقال " الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد " وقال " الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم والذئب إنما يأخذ القاصية والنائية من الغنم " .
فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالاً أو غاوياً وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك، وإلا فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وإذا كان قادراً على أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاه، وإن قدر أن يمنع من يظهر البدع والفجور منعه. وإن لم يقدر علىذلك فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله وسنة نبيه الأسبق إلى طاعة الله ورسوله أفضل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح " يؤم القوم أقرأكم لكتاب الله. فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة. فإن كانوا سواء فأقدمهم هجرة. فإن كان في الهجرة سواء فأقدمهم سناً " وإن كان في هجره لمظهر البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم. وأما إذا ولي غيره بغير إذنه وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية كان تفويت هذه الجمعة والجماعة جهلاً وضلالاً وكان قد رد بدعة ببدعة.
حتى أن المصلي الجمعة خلف الفاجر اختلف الناس في إعادته الصلاة وكرهها أكثرهم، حتى قال أحمد بن حنبل في رواية عبدوس: من أعادها فهو مبتدع. وهذا أظهر القولين، لأن الصحابة لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف أهل الفجور والبدع، ولم يأمر الله تعالى قط أحداً إذا صلى كما أمر بحسب استطاعته أن يعيد الصلاة. ولهذا كان صح قولي العلماء أن من صلى بحسب استطاعته أن لا يعيد، حتى المتيمم لخشية البرد، ومن عدم الماء والتراب إذا صلى بحسب حاله، والمحبوس وذوو الأعذار النادرة والمعتادة والمتصلة والمنقطعة لا يجب على أحد منهم أن يعيد الصلاة إذا صلى الأولى بحسب استطاعته.
وقد ثبت في الصحيح أن الصحابة صلوا بغير ماء ولا تيمم لما فقدت عائشة عقدها ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، بل أبلغ من ذلك أن من كان يترك الصلاة جهلاً بوجوبها لم يأمره بالقضاء، فعمرو وعمار لما أجنبا وعمرو لم يصل وعمار تمرغ كما تتمرغ الدابة لم يأمرهما بالقضاء، وأبو ذر لما كان يجنب ولا يصلي لم يأمره بالقضاء، والمستحاضة لما استحاضت حيضة شديدة منكرة منعتها الصلاة والصوم لم يأمرها بالقضاء، والذين أكلوا في رمضان حتى يتبين لأحدهم الحبل الأبيض من الحبل الأسود لم يأمرهم بالقضاء، وكانوا قد غلطوا في معنى الآية فظنوا أنقوله تعالى (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر)هو الحبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنما هو سواد الليل وبياض النهار " ولم يأمرهم بالقضاء، والمسيء في صلاته لم يأمره بإعادة ما تقدم من الصلوات، والذين صلوا إلى بيت المقدس بمكة والحبشة وغيرهما بعد أن نسخت بالأمر بالصلاة إلى الكعبة وصلوا إلى الصخرة حتى بلغهم النسخ لم يأمرهم بإعادة ما صلوا، وإن كان هؤلاء أعذر من غيرهم لتمسكهم بشرع منسوخ.
وقد اختلف العلماء في خطاب الله ورسوله هل يثبت حكمه في حق العبيد قبل البلاغ؟ على ثلاثة أقوال، في مذهب أحمد وغيره. قيل يثبت وقيل لا يثبت، وقيل يثبت المبتدأ دون الناسخ. والصحيح ما دل عليه القرآن فيقوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وقوله (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) وفي الصحيحين " ما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ".
فالمتأول والجاهل المعذور ليس حكمه حكم المعاند والفاجر بل قد جعل الله لكل شيء قدراً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب جامع الرسائل لسيخ الاسلام ابن تيمية