فضل العلم وما يتعلق به -مختصر منهاج القاصدين. قال الله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر:9].
وقال تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة:11] قال ابن عباس رضى الله عنهما: للعلماء درجات فوق المؤمنين بسبعمائة درجة، ما بين الدرجتين مسيرة خمسمائة عام، وقال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28].
وفى "الصحيحين" من حديث معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "من يرد الله به خيراً يفقهه فى الدين".
وعن أبى أمامة رضى الله عنه قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلان: أحدهما: عابد، والآخر: عالم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "فضل العالم على العابد كفضلى على أدناكم"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله وملائكته، وأهل السموات والأرض، حتى النملة فى جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير" رواه الترمذى وقال: حديث حسن صحيح.
وفى حديث آخر: "فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر".
وعن صفوان بن عسال رضى الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب" رواه الإمام أحمد، وابن ماجة.
قال الخطابي: فى معنى وضعها أجنحتها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه بسط الأجنحة.
الثاني: أنه بمعنى التواضع لطالب العلم.الثالث: أن المراد به النزول عند مجالس العلم وترك الطيران.
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة” رواه مسلم.
وروى عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام، كان بينه وبين الأنبياء فى الجنة درجة واحدة” ، وفيه أخبار كثيرة.
وكان بعض الحكماء يقول: ليت شعري، أي شىء أدرك من فاته العلم، وأي شىء فات من أدرك العلم.
ومن فضائل التعليم ما أخرجاه فى “الصحيحين” عن سهل بن سعد رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلى رضى الله عنه: “ لأن يهدى الله بك رجلاً واحداً خير من أن يكون لك حمر النعم”.
وقال ابن عباس: “ إن الذى يعلم الناس الخير تستغفر له كل دابة حتى الحوت فى البحر”. وروى نحو ذلك فى حديث مرفوع إلى النبى صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قيل: ما وجه استغفار الحوت للمعلم؟
فالجواب: أن نفع العلم يَعُمُّ كل شىء حتى الحوت، فإن العلماء عرفوا بالعلم ما يحل ويحرم، وأوصوا بالإحسان إلى كل شىء حتى إلى المذبوح والحوت، فألهم الله تعالى الكل الاستغفار لهم جزاءاً لحسن صنيعهم.
وعن أبى موسى رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب (1) أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي
قيعان (2) لا تمسك ماء ولاتنبت كلأ، فذلك مثل من َفقُه فى دين الله ونفعه الله بما بعثنى به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذى أرسلت به” أخرجاه فى “الصحيحين.
فانظر رحمك الله إلى هذا الحديث ما أوقعه على الخلق، فإن الفقهاء أولي الفهم، كمثل البقاع التي قبلت الماء فأنبتت الكلأ، لأنهم علموا وفهموا، وفرعوا وعلَّموا. وغاية الناقلين من المحدثين الذين لم يرزقوا الفقه والفهم، أنهم كمثل الأجادب التي حفظت الماء فانتفع بما عندهم، وأما الذين سمعوا ولم يتعلموا ولم يحفظوا، فهم العوام الجهلة.
وقال الحسن رحمه الله: لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم.
وقال معاذ بن جبل رضى الله تعالى عنه: تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاده، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقه، وبذله لأهله قربة، وهو الأنيس فى الوحدة، والصاحب فى الخلوة.
وقال كعب رحمه الله: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: أن تعلم يا موسى الخير وعلمه للناس، فإني منور لمعلم الخير ومتعلمه قبورهم حتى لا يستوحشوا بمكانهم.
1ـ فصل [ طلبُ العلمِ فريضةُُ]
قد روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “ طلب العلم فريضة على كل مسلم” رواه أحمد فى “العلل” .
قال المصنف رحمه الله تعالى: اختلف الناس فى ذلك.
فقال الفقهاء: هو علم الفقه، إذ به يعرف الحلال والحرام.
وقال المفسرون والمحدثون: هو علم الكتاب والسنة، إذ بهما يتوصل إلى العلوم كلها.
وقالت الصوفية: هو علم الإخلاص وآفات النفوس.
وقال المتكلمون: هو علم الكلام. إلى غير ذلك من الأقوال التي ليس فيها قول مرضى، والصحيح أنه علم معاملة العبد لربه.
والمعاملة التي كلفها على ثلاثة أقسام:
اعتقاد، وفعل، وترك.
فإذا بلغ الصبى، فأول واجب عليه تعلم كلمتي الشهادة وفهم معناها وإن لم يحصل ذلك بالنظر والدليل، لأن النبى صلى الله عليه وآله وسلم اكتفى من أجلاف العرب بالتصديق من غير تعلم دليل، فذلك فرض الوقت، ثم يجب عليه النظر والاستدلال.
فإذا جاء وقت الصلاة وجب عليه تعلم الطهارة والصلاة، فإذا عاش إلى رمضان وجب عليه تعلم الصوم، فإن كان له مال وحال عليه الحول وجب عليه تعلم الزكاة، وإن جاء وقت الحج وهو مستطيع وجب عليه تعلم المناسك.
وأما التروك: فهو بحسب ما يتجدد من الأحوال، إذ لا يجب على الأعمى تعلم ما يحرم النظر إليه، ولا على الأبكم تعلم ما يحرم من الكلام، فإن كان فى بلد يتعاطى فيه شرب الخمر ولبس الحرير، وجب عليه أن يعرف تحريم ذلك.
وأما الاعتقادات: فيجب علمها بحسب الخواطر، فإن خطر له شك فى المعاني التي تدل عليها كلمتا الشهادة، وجب عليه تعلم ما يصل به إلى إزالة الشك. وإن كان فى بلد قد كثرت فيه البدع، وجب عليه أن يتلقن الحق، كما لو كان تاجراً فى بلد شاع فيه الربا، وجب عليه أن يتعلم الحذر منه.
وينبغى أن يتعلم الإيمان بالبعث والجنة والنار.
فبان بما ذكرنا أن المراد بطلب العلم الذى هو فرض عين: ما يتعين وجوبه على الشخص.
فأما فرض الكفاية: فهو علم لا يُستغنى عنه فى قِوَام أمور الدنيا، كالطب إذ هو ضروري فى حاجة بقاء الأبدان على الصحة، والحساب، فإنه ضروري فى قسمة المواريث والوصايا وغيرها.
فهذه العلوم لو خلا البلد عمن يقوم بها حَرِجَ أهل البلد، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الباقين.
ولا يُتعجب من قولنا: إن الطب والحساب من فروض الكفاية، فإن أصول الصناعات أيضاً من فروض الكفاية، كالفلاحة والحياكة، بل الحجامة فإنه لو خلا البلد عن حَجَّام لأسرع الهلاك إليهم، فإن الذى أنزل الداء أنزل الدواء وأرشد إلى استعماله.
وأما التعَّمق فى دقائق الحساب، ودقائق الطب وغير ذلك، فهذا يعد فضله، لأنه يستغنى عنه (3)
وقد يكون بعض العلوم مباحاً، كالعلم بالأشعار التي لا سخف فيها، وتواريخ الأخبار.
وقد يكون بعضها مذموماً، كعلم السحر، والطلسمات، والتلبيسات.
فأما العلوم الشرعية فكلها محمودة، وتنقسم إلى أصول، وفروع، ومقدمات ومتممات.
فالأصول: كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإجماع الأمة، وآثار الصحابة.
والفروع: ما فهم من هذه الأصول من معان تنبهت لها العقول حتى فهم من اللفظ الملفوظ وغيره، كما فهم من قوله: “لا يقضى القاضي وهو غضبان” أنه لا يقضى جائعاً.
والمقدمات: هي التي تجرى مجرى الآلات، كعلم النحو واللغة، فإنهما آلة لعلم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
والمتممات: كعلم القراءات، ومخارج الحروف، وكالعلم بأسماء رجال الحديث وعدالتهم وأحوالهم، فهذه دهى العلوم الشرعية، وكلها محمودة.
2ـ فصل [في علم المعاملة]
فأما علم المعاملة وهو علم أحوال القلب، كالخوف، والرجاء، والرضى، والصدق، والإخلاص وغير ذلك، فهذا العلم ارتفع به كبار العلماء، وبتحقيقه اشتهرت أذكارهم، كسفيان ، وأبى حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد.
وإنما انحطت رتبة المسمين بالفقهاء والعلماء عن تلك المقامات، لتشاغلهم بصورة العلم من غير أخذ على النفس أن تبلغ إلى حقائقه وتعمل بخفاياه.
وأنت تجد الفقيه يتكلم فى الِّظهار، واللِّعان، والسبع، والرمى، ويفرع التفريعات التي تمضى الدهور فيها ولا يحتاج إلى مسألة منها، ولا يتكلم فى الإخلاص، ولا يحذر من الرياء، وهذا عليه فرض عين، لأن في إهماله هلاكه، والأول فرض كفاية. ولو أنه سئل عن علة ترك المناقشة للنفس فى الإخلاص والرياء لم يكن له جواب. ولو سئل عن علة تشاغله بمسائل اللعان والرمى، لقال: هذا فرض كفاية، ولقد صدق، ولكن خفي عليه أن الحساب فرض كفاية أيضاً، فهلا تشاغل به، وإنما تبهرج عليه النفس، لأن مقصودها من الرياء والسمعة يحصل بالمناظرة، لا بالحساب!
واعلم: أنه بدلت ألفاظ وحرفت، ونُقلت إلى معان لم يردها السلف الصالح.
* فمن ذلك: الفقه، فإنهم تصرفوا فيه بالتخصيص، فخصوه بمعرفة الفروع وعللها، ولقد كان اسم الفقه فى العصر الأول منطلقاً على علم طريق الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس، ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب.
ولذلك قال الحسن رحمه الله: إنما الفقيه الزاهد فى الدنيا، الراغب فى الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الوَرِع الكافُّ عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، الناصح لهم.
فكان إطلاقهم اسم الفقه على علم الآخرة أكثر، لأنه لم يكن متناولاً للفتاوى، ولكن كان متناولاً لذلك بطريق العموم والشمول، فثار من هذا التخصيص تلبيس بعث الناس على التجرد لعلم الفتاوى الظاهرة، والإِعراض عن علم المعاملة للآخرة.
اللفظ الثاني: العلم. فقد كان ذلك يطلق على العلم بالله تعالى وبآياته، آي: نعمه وأفعاله فى عباده، فخصوه وسموا به الغالب المناظر فى مسائل الفقه وإن كان جاهلاً بالتفسير والأخبار.
اللفظ الثالث: التوحيد: وقد كان ذلك إشارة إلى أن ترى الأمور كلها من الله تعالى رؤية تقطع الالتفات إلى الأسباب والوسائط، فيثمر ذلك التوكل والرضى وقد جعل الآن عبارة عن صناعة الكلام فى الأصول، وذلك من المنكرات عند السلف.
اللفظ الرابع: التذكير والذكر. قال تعالى: {وَذكَّرْ َفإنَّ الذَّكْرَى تْنَفعُ الُمْؤمنينَ} (الذاريات: 55).
وقال النبى صلى الله عليه وآله وسلم :”إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر” فتقلوا ذلك إلى القصص وما يحتوى عليه اليوم مجلس القاص من الشطح والطامات.
ومن تشاغل فى وعظة بذكر قصص الأولين، فليعلم أن اكثر ما يحكى فى ذلك لا يثبت، كما ينقلون أن يوسف عليه السلام حل تكته، وأنه رأى يعقوب عاضا على يده، وأن داود جهز أوريا حتى قتل، فمثل هذا يضر سماعه.
وأما الشطح والطامات: فمن أشد ما يؤذى العوام، لأنها تشمل على ذكر المحبة والوصال وألم الفراق، وعامة الحاضرين أجلاف، بواطنهم محشوة بالشهوات وحب الصور، فلا يحرك ذلك من قلوبهم إلا ما هو مستكن فى نفوسهم، فيشتعل فيها نار الشهوة، فيصيحون، وكل ذلك فساد.
وربما احتوى الشطح على الدعاوى العريضة فى محبة الله تعالى، وفى هذا ضرر عظيم. وقد ترك جماعة من الفلاحين فلاحتهم، وأظهروا مثل هذه الدعاوى.
اللفظ الخامس: الحكمة. والحكمة: العلم والعمل به.
قال ابن قتيبة رحمة الله: لا يكون الرجل حكيما حتى يجمع العلم والعمل. وقد صار هذا الاسم يطلق فى هذا الزمان على الطبيب والُمنِّجم.
3ـ فصل (في العلوم المحمودة)
وأعلم أن العلوم المحمودة تنقسم إلى قسمين:
الأول: محمود إلى أقصى غاياته، وكلما كان أكثر كان أحسن وأفضل. وهو العلم بالله تعالى، وبصفاته، وأفعاله، وحكمته فى ترتيب الآخرة على الدنيا، فان هذا علم مطلوب لذاته، والتوصل به إلى سعادة الآخرة، وهو البحر الذى لا يدرك غوره وانما يحوم اُلمَحِّومون على سواحله وأطرافه بقدر ما تيسر لهم.
والقسم الثاني: العلوم التي لا يحمد منها إلا مقدار مخصوص، وهى التي ذكرناها من فروض الكفايات، فان فى كل منها افتقاراً واقتصاراً واستقصاءاً.
فكن أحدَ رجلين: إما مشغولاً بنفسك، وإما متفرغاً لغيرك بعد الفراغ من نفسك.
وإياك أن تشتغل بما يصلح غيرك قبل إصلاح نفسك، واشتعل بإصلاح باطنك وتطهيره من الصفات الذميمة، كالحرص، والحسد، والرياء، والعجب، قبل إصلاح ظاهرك، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى فى ربع المهلكات.
فان لم تتفرغ من ذلك فلا تشتغل بفروض الكفايات، فان فى الخلق كثيراً يقومون بذلك، فإن مهلك نفسه فى طلب صلاح غيره سفيه، ومثله مثل من دخلت العقارب تحت ثيابه وهو يذب الذباب عن غيره.
فإن تفرغت من نفسك وتطهيرها، وما أبعد ذلك ، فاشتغل بفروض الكفايات وراع التدريج فى ذلك.
فابتدأ بكتاب الله عز وجل، ثم بسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم بعلوم القرآن: من التفسير، ومن ناسخ ومنسوخ، ومحكم ومتشابه، إلى غير ذلك.
وكذلك فى السنة، ثم اشتغل بالفروع، وأصول الفقه وهكذا بقية العلوم على ما يتسع العمر ويساعد فيه الوقت.
ولا تستغرق عمرك فى فن واحد منها طلباً للاستقصاء، فان العلم كثير، والعمر قصير، وهذه العلوم آلات يراد بها غيرها، وكل شىء يطلب لغيره فلا ينبغي أن ينسى فيه المطلوب.
4ـ فصل (فى عَالمٍ لم ينفعه علمه)
واعلم: أن المناظرة الموضوعة لقصد المغالبة والمباهاة منبع الأخلاق المذمومة، ولا يسلم صاحبها من كبر، لاحتقار المقصرين عنه، وعجب بنفسه لارتفاعه على كثير من نظرائه، ولا يسلم من الرياء، لأن جمهور مقصود المناظر اليوم علم الناس بغلبته، وإطلاق ألسنتهم بشكره ومدحه، فهو يُذِهبُ عمره فى العلوم التي تعين على المناظرة مما لا ينفع فى الآخرة، كحسن اللفظ، وحفظ النوادر.
وقد روى فى الحديث عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه” (1).
5ـ باب فى آداب المعلم والمتعلم
وآفات العلم وبيان علماء السوء وعلماء الآخرة
أما المتعلم فينبغي له تقديم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق ومذموم الصفات. إذ العلم عبادة القلب.
وينبغى له قطع العلائق الشاغلة، فان الفكرة متى توزعت قصرت عن إدراك الحقائق.
وقد كان السلف يؤثرون العلم على كل شىء، فروى عن الإمام احمد رحمه الله انه لم يتزوج إلا بعد الربعين.
وأهديت إلى أبى بكر الأنبارى جارية، فلما دخلت عليه تفكر فى استخراج مسألة فعزبت عنه، فقال: أخرجوها إلى النخاس، فقالت: هل من ذنب؟ قال: لا، إلا أن قلبي اشتغل بك، وما قدر مثلك أن يمنعني علمي.
وعلى المتعلم أن يلقى زمامه إلي المعلم اللقاء المريض زمامه إلي الطبيب، فيتواضع له ، ويبالغ فى خدمته .
وقد كان ابن عباس رضى الله عنه يأخذ بركاب زيد بن ثابت رضى الله عنه ويقول : هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء.ومتى تكبر المتعلم أن يستفيد من غير موصوف بالتقدم فهو جاهل، لأن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها، وليدع رأيه لرأى معلمه فان خطأ المعلم أنفع للمتعلم من صواب نفسه.
قال على رضى الله عنه: إن من حق العالم عليك أن تسلم على القوم عامة، وتخصه بالتحية، وأن تجلس أمامه، ولا تشير عنده بيدك، ولا تغمزن بعينك، ولا تكثر عليه السؤال، ولا تعينه فى الجواب، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تراجعه إذا امتنع، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفشى له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا تطلبن عثرته، وان زل قبلت معذرته، ولا تقولن له : سمعت فلانا يقول كذا ، ولا أن فلاناً يقول خلافك. ولا تصفن عنده عالماً، ولا تعرض من طول صحبته، ولا ترفع نفسك عن خدمته، وإذا عرضت له حاجة سبقت القوم إليها، فإنما هو بمنزلة النخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شئ.
وينبغى أن يحترز الخائض فى العلم فى مبدأ الأمر من الإصغاء إلى اختلاف الناس، فإن ذلك يحير عقله ويفتر ذهنه.
وينبغى له أن يأخذ من كل شئ أحسنه. لأن العمر لا يتسع لجميع العلوم، ثم يصرف جُمَام قوته إلى أشرف العلوم، وهو العلم المتعلق بالآخرة، الذى به يكتسب اليقين الذى حصله
أبو بكر الصديق رضى الله عنه، حتى شهد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: “ما سبقكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة، ولكن بشيء وقر فى صدره” فهذه وظائف المتعلم.
وأما المعلم فعليه وظائف أيضاً:
من ذلك الشفقة على المتعلمين، وأن يجريهم مجرى بنيه، ولا يطلب على إفاضة العلم أجراً، ولا يقصد به جزاءاً ولا شكراً، بل يعلم لوجه الله تعالى، ولايرى لنفسه منة على المتعلمين، بل يرى الفضل لهم إذ هيؤوا قلوبهم للتقرب إلى الله تعالى بزارعة العلم فيها، فهم كالذي يعير الأرض لمن يزرع فيها.فلا ينبغي أن يطلب المعلم الأجر إلا من الله تعالى. وقد كان السلف يمتنعون من قبول هدية المتعلم.
ومنها أن لا يدخر من نصح المتعلم شيئاً، وأن يزجره عن سوء الأخلاق بطريق التعريض مهما أمكن، لا على وجه التوبيخ، فإن التوبيخ يهتك حجاب الهيبة.
ومنها: أن ينظر فى فهم المتعلم ومقدار عقله، فلا يلقي إليه مالا يدركه فهمه ولا يحيط به عقله.
فقد روي عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم”(( لم يثبت شئ من هذا عن النبى صلى الله عليه وسلم، وقد روى البخاري في "صحيحه" 1/199 تعليقاً فى العلم: باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألا يفهموا قول علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله، قال الحافظ: وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة، ومثله قول :عبد الله بن مسعود فيما رواه الإمام مسلم فى "صحيحه" 1/76 بشرح النووي: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)) .
وقال علي رضي الله عنه: إن هاهنا علماً لو وجدت له حملته.
وقال الشافعي رحمه الله:
أأنثر دراً بين سارحة النعم أأنظم منثوراً لراعية الغنـــم
>ومن منح الجهال علماً أضاعه ومن منع المستوجبين فقد ظلم
ومنها: أن يكون المعلم عاملاً بعلمه. ولا يكذب قوله فعله. قال الله تعالى:
{أَتَأْمُرونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُم وَأَنْتُم تَتْلُونَ الكَتابَ} [البقرة: 44]
وقال علي رضي الله عنه: قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك.