تحقيق ضوابط سجود السهو في الصلاة
تأليف وليد بن راشد السعيدان
بسم الله الرحمن الرحيم
المـقـدمـة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك لـه وأشهد أن محمد اً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً ثم أما بعد :-
فإن باب سجود السهو من الأبواب المهمة العظيمة وذلك لتعلقه بالركن الثاني من أركان الإسلام الذي هو الصلاة تعلق الجابر بالمجبور ، فهو يُعَدُّ جابراً لخلل حصل في الصلاة من زيادة أو نقص أو شك ولصعوبة بعض مسائله وكثرة صوره وفروعه وعدم التعقيد فيه صار هذا الباب المهم من الأبواب التي هجرها الطلاب وزهدوا فيها وخصوصاً الأئمة فكثرت فيه الأخطاء الواضحة والمخالفات البينة ، مما قد يكون مخلاً بالصلاة أصلا من حيث لا يشعر الإنسان ، فكان لزاماً عليهم تعلم مسائل هــذا الباب والحرص التام على السؤال عن ما يشكل فيها وضبط أدلته ضبط حفظ وتطبيق ، والاهتمام بـه اهتماماً بالغاً مقدماً على غيره من المسائل التي لا يحتاج إليها إلا في القليل النادر ، وقد ألقيت في ذلك مؤلفات لكن ينقص بعضها الرجوع للدليل وبعضها تذكر المسائل مجردة عن أصولها ، ولذلك ولغره أحببت أن أشارك في تيسير هذا الباب وضبطه بضوابط هي في اجتهادي موافقة للدليل مع ذكر أدلتها من المنقول والمعقول مع الإجابة عن ما تلزم الإجابة عليه وبيان حال الأدلة صحة وضعفاً ، وأسميته ( تحقيق ضوابط السهو ) ولكن ليعلم الناظر فيه أنه جهد مقل وعمل بشر لا يخلوا من النقص والتقصير والخطأ والزيادة ، فأرجو من الناظر فيه إن وجد زللاً أن يستغفر لصاحبه وأن يبادر بالنصيحة الواجبة بين الأحبة ، فالله اسأل أن ينفع به المسلمين وأن يجعله مرجعاً في هذا الباب المهم وأن يكتبه عملاً صالحاً ينفعني في قبري إنه ولي ذلك والقادر عليه وإلى المقصود والله المستعان وعليه التكلان فأقول :
المسألة الأولى (كل واجب فإنه يفوت بفوات محله سهواً وسجوده قبل السلام )
وهذا الضابط عام في كل واجبات الصلاة المعروفة عند الفقهاء وهي التكبير غير التحريمية والتسميع والتحميد وتسبيحات الركوع والسجود وسوآل المغفرة بين السجدتين والتشهد الأول وجلسته ، فهذه هي واجبات الصلاة فإذا ترك الإنسان شيئاً من هذه الواجبات فلا يخلو إما أن يكون عمداً أو سهواً فإن كان عمداً فإن صلاته حينئذٍ تبطل ولا يسجد للسهو لأنه لا سجود للسهو في عمد كما سيأتي إن شاء الله تعالى وإن كان تركه سهواُ فلا يخلو إما أن يفوت محله أو لا فإن لم يفت محله فإنه لا تفوت المطالبة به عليه أن يأتي به ولا سجود عليه وأما إن فات محله الذي شرع فيه فإنه حينئذٍ يفوت بفوات محله ولا يشرع للإنسان أن يرجع ليأتي به ، بل يكمل صلاته ويسجد للسهو قبل السلام ، والدليل على هذا الضابط ما رواه الشيخان من حديث عبدالله بن بحينة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأوليين ولم يجلس فقام الناس معه حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس فسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم .ولمسلم (( يكبر في كل سجدةٍ ويسجد وهو جالس وسجد الناس معه فكان ما نسي من الجلوس )) ووجه الاستشهاد وبه من عدة أمور منها :
- أن ترك التشهد الأول وسجد للسهو قبل السلام ، والتشهد الأول واجب ، فقسنا عليه كل واجب في الصلاة .
- أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه نسي التشهد الأول وهو في أثناء الصلاة لأنه لم يسبح به أحد ليس سهواً منهم وإنما لأنهم ظنوا أنه طرأ في الصلاة شيء ، مما يدل على أن التشهد الأول إن فات محله فإنه يفوت بفواته إذا لو كان التشهد المتروك لم يفت بفوات محله لرجع النبي صلى الله عليه وسلم وأتى به لكن لما يرجع إليه مع ذكره له أثناء الصلاة لأنه لم يسبح به أحد دل ذلك على أنه سقط بفوات محله ، وهو واجب فقسنا علسه كل واجب في الصلاة .
- أن الراوي قال (( وسجد الناس من مكان ما نسي من الجلوس )) فدل ذلك على أن هاتين السجدتين إنما هي لترك التشهد الأول وجلسته لا لسهوٍ آخر ، وهما قبل السلام فقلنا ذلك في كل واجب ،والله أعلم .
ومن الأدلة عليه أيضاً حديث المغيرة بن شعبة مرفوعاً (( إذا شك أحدكم فقام في الركعتين فاستتم قائماً فليمض ولا يعود ويسجد سجدتين فإن لم يستتم قائماً ، فليجلس ولا سهو عليه )) رواه أبو داوود وابن ماجة والدار قطني واللفظ له بسند ضعيف ، لأن مداره على جابر الجعف وهو ضعيف جداً لكن تابعه قيس بن الربيع عن المغيرة بن شبيل به ، أخرجه الطحاوي وتابعه أيضاً إبراهيم بن طهمان عن ابن شبيل به ، وإسناده صحيح ، فحديث المغيرة يتقوى بمجموع طرقه ويرتقي إلى مرتبة الصحيح لغيره ، ووجه الاستشهاد به هو أن النبي صلى الله عليه وسلم فصل في نسيان التشهد الأول فكأنه قال : لا يخلو من حالتين :
الأول : إذا استتم قائماً إي أن فات محله ، وأنت تعرف أن محله التشهد الأول ينتهي باستتمام القيام ، فقال (( إن استتم قائماً فليمض ولا يعود )) أي لا يرجع إلى محل التشهد ليأتي به لأنه قد فات محله ففات بفواته فقسنا عليه كل واجب ، إذا فات محله فإنه يفوت بفواته ، ثم قال : (( وليسجد سجدتين )) وظاهره أنه سجود لما ترك من الجلوس .
الثانية : قوله (( وإن لم يستتم قائماً فليجلس )) أي إذا ذكر الجلوس للتشهد قبل فوات محله لأنه لا يفوت إلا بعد استتمام القيام ، فإن ذكره قبل فواته فالواجب عليه أن يجلس ليأتي به وقسنا عليه كل واجب إذا ذكره الإنسان قبل فوات محله أنه يجب عليه أن يأتي به ، ثم قال (( ولا سجود عليه )) أي إذا ذكره الواجب قبل فوات محله ثم جاء به فإنه حينئذٍ لا سجود للسهو عليه لأنه جاء بما أمر به على صفته وقسنا عليه كل واجب أنه إذا ذكره الإنسان وجاء به في محله فإنه لا سجود للسهو عليه ، وبقي أن يقال : إنه ذكر في الحديث (( وليسجد سجدتين )) ولم يبين هل الجود قبل السلام أو بعده ، فأقول : إن هذا الحديث له قصة : وهي ما رواه الإمام أحمد في المسند وأبو داوود والترمذي وغيرهم من حديث زياد بن علاقة قال: صلى بنا المغيرة بن شعبة فلما صلى ركعتين قام ولم يجلس فسبح به من خلفه فأشار إليهم أن قوموا فلما فرغ من صلاته سلم ثم سجدتين وسلم ثم قال : هكذا صنع بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالمغيرة رضي الله عنه سجد لما ترك التشهد الأول بعد السلام وقال هكذا صنع بنا النبي صلى الله عليه وسلم فظاهر هذا الحديث يخالف حديث ابن بحينه وأن النبي صلى الله عليه وسلم سجد لذلك قبل السلام ، ومع أن فعل المغيرة مفسر لحديثه وله حكم الرفع لأنه قال : (( هكذا صنع بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذاً هناك تعارض واضح بين حديث ابن بحينه وبين حديث المغيرة لأن حديث المغيرة يقضي بأن السجود عمن ترك التشهد الأول بعد السلام ، وحديث ابن بحينه يقضي أنه قبله فما العمل ؟ أقول : قد حاول بعض العلماء الجمع بينهما فذك بعضهم : أنه يجوز الأمر أن لثبوتهما عنه صلى الله عليه وسلم فابن يحينه روى ما رأى والمغيرة روى ما رأى وكلاهما صحيح فيكون هذا من العبادات التي شرعت على أوجه متنوعة ، فأحياناً يسجد الإنسان لذلك قبل السلام وأحياناً بعده ، وبعضهم قال : بل نسلك مسلك الترجيح فإن حديث ابن بحينه مخرج في الصحيحين من رواية الزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري عن عبدالرحمن الأعرج عن عبدالله بن بحينه ، وأما حديث المغيرة فإنه حديث ضعيف بانفراده وإنما تقوى بمتابعات هي أيضاًً في بعضها ضعف ، فهما عند التعارض لأتينا طحان لأن حديث ابن بحينة أرجح صحة ، وكذلك حديث ابن بحنية نقل لنا القصد بحذافيرها ولم يجملها ، وأما حديث المغيرة فإنه فعل شيئاً ثم قال هكذا صنع بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا ندري هل المراد جميع الفعل أم بعضه ، وأيضاً فإن المغيرة رضي الله عنه وأرضاه لما روى ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم قولاً قال (( وليسجد سجدتين )) ولم يقل بعد السلام فلو كان مما يحفظها من النبي صلى الله عليه وسلم لذكرها ، إذ كيف يبينها بفعلها ولا يبنها بقوله ، ولأن ،أخذ بفعله الصريح المنقول رواية عنه أفضل من أن نأخذ بنقل فعله على جهة الإجمال مع تفصيل الصحابي ، وأيضاً لعل المغيرة رضي الله عنه فهم من قوله صلى الله عليه وسلم (( وليسجد سجدتين )) لعله فهم منه أنهما بعد السلام ، فيكون فهمه هذا ليس حجة لأنه خالف فعل النبي صلى الله عليه وسلم الصريح ولا حجة بفعل أحد أو قوله مع فعل أو قول النبي صلى الله عليه وليس في شيء من الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك أعني بنقل تفاصيل الفعل كما نقلها أبن بحينة رضي الله عنه ، والأرجح عندي والله تعالى أعلم هو ترجيح حديث عبدالله بن بحينة على فعل المغيرة بن شعبة ، وذلك لأن الروايات التي فيها أن المغيرة سجد بعد التسليم روايات ضعيفة ، فإنه لم يذكر ذلك إلا في رواية المسعودي وهو عبدالله بن عبدالرحمن وهو مختلط ، ورواية قيس بن الربيع وهو سيئ الحفظ ورواية محمد بن عبدالرحمن ابن أبي ليلى وهو سيئ الحفظ ، مع أن الحديث صحيح لغيره لكن أقصد فعل المغيرة وأنه سجد بعد السلام إنما هو من رواية هولآء فلا يترك حديث ابن بحينة من الذي هو أصل من أصول سجود السهو لمثل هذه الروايات الضعيفة ومن الأدلة على هذا الضابط حديث عبدالرحمن بن شماسة المهدي قال صلى بنا عقبة الجهني فقام وعليه جلوس فقال الناس سبحان الله سبحان الله فلم يجلس ومضى على قيامه فلما كان في آخر صلاته سجد سجدتين وهو جالس فلما سلم قال :إني سمعتكم آنفاً تقولون (سبحان الله) لكيما أجلس لكن السنة الذي صنعت "رواه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي ، ومن الأدلة أيضاً حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من رواية قيس بن أبي حازم قال : صلى بنا سعد بن أبي وقاص فنهض في الركعتين فسجدنا فاستتم قائماً قال فمضى في قيامه حتى فرغ قال أكنتم ترون أن أجلس إنما صنعت كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم "رواه الهيثمي في مجمع الزوائد "
ومن الأدلة أيضاً على ذلك ما رواه الطحاوي في شرح معاني الأثر والدار قطني في سننه والبيهقي في المعرفة من طريق محمد بن عجلان مولى فاطمة عن محمد بن يوسف مولى عثمان عن أبيه أن معاوية ببن أبي سفيان صلى بنا فقام وعليه جلوس فلم يجلس فلما كان في آخر صلاته سجد سجدتين قبل أن يسلم وقال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ، وأيضاً أفتى بذلك ابن عباس والضحاك وعمران بن حصين وعمر بن عبد العزيز رضي الله عن الجميع وأرضاهم ،
ومن العقل أيضاً ،فإن الأدلة الصحيحة توافق العقول الصريحة وذلك لأن الإنسان إذا ترك الواجب وفات محله فإن هذا نقص في الصلاة فناسب أن يسجد قبل السلام جبراً لهذا النقص وهذا قياس صحيح موافق للأدلة السابقة ، إذاً صح هذا الضابط بالدليل النقلي والعقلي ، فكل واجب تركه الإنسان وذكره قبل فوات محله فإنه يأتي به ولا سهو عليه وأما إذا فات محله فإنه يفوت ولا يجوز له الرجوع ليأتي به وإنما يجبره بسجود السهو ويكون قبل السلام ، والأدلة وإن كانت خاصة بالجلوس للتشهد فإن قياس جميع الواجبات عليه قياس صحيح فالجامع بينه وبينها هو كون كل واحد منها واجبٌ فلما سقط الجلوس للتشهد الأول وجبر السجود السهو قبل السلام قسنا على ذلك جميع الواجبات ، هذا من ناحية التنظير وأما التفريع فنذكر منها ما يلي :
منها: نسي التشهد الأول ولم يذكره إلا بعد فوات محله فنقول : سقط عنه ولا يرجع ليأتي به ويسجد للسهو قبل السلام لأن الواجب يفوت بفوات محله
ومنها: نسي الإمام أن يقول سمع الله لمن حمده ولم يذكرها إلا بعد الهوي للسجود فنقول : سقطت عنه ولا يرجع لها ويسجد للسهو قبل السلام لأنها من الواجبات .
ومنها: ترك قول سبحان ربي الأعلى في السجود أو قول سبحان ربي العظيم في الركوع ولم يذكرها إلا بعد الانتهاء من الركوع والسجود فنقول سقطت عنه ويجبرها بسجود السهو قبل السلام .
ومنها: ترك المصلي قول (ربنا ولك الحمد )ولم يذكره إلا في السجود فإنه يسقط عنه ويجبره بسجود السهو قبل السلام .
ومنها: ترك المصلي تكبيرة من تكبيرات الانتقال حتى شرع في الركن الذي بعدها فإنه تسقط عنه ويجبرها بسجود السهو قبل السلام ،وهكذا فقس عليه،وخلاصة الكلام أمران: الأول : (أن الواجب يفوت بفوات محله سهواً ).
الثاني: أن سجود السهو لفوات واجب قبل السلام . والله تعالى أعلم