مراحل تدوين العقيدة ــــ للشيخ سليم الهلالي حفظه الله ـــــــــ
منذ أن بعث اللَّه -جلّ جلاله- رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق بقي عماد مسائل الإيمان والتوحيد قائماً على الآيات القرآنية والسُّنة النبوية الصحيحة، وكان هذا منهج الإسلام في غرس جذر الإيمان في قلوب الرجال حيث يعرضه عليها عرضاً كله سهولة ويسر؛ فيسترعي النظر إلى ملكوت السماوات والأرض، ويوقظ عقلولهم في التفكير في آيات اللَّه، وينبه فطرتهم إلى ما نقش فيها من تديّن وإحساس بعالم الغيب.
وعلى هذا المسار مضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم متعهداً صحبه بالتربية حتى أخرج الزرع شطأه؛ فآزره؛ فاستغلظ؛ فاستوى على سوقه، واستطاع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن اللَّه، ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد.
عن حذيفة بن اليمان -رضي اللَّه عنه- قال: حدثنا رسول اللَّه حديثين رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر:
حدثنا: «أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة...» الحديث([1]).
كان القرآن الكريم والسّنّة الصحيحة هما المورد العذب الزلال والمنهل الصافي الرقراق الذي تضلع من سلسبيله النمير جيل القدوة الأول وقرن الأسوة الأمثل: محمد والذين معه؛ فتفقهوا عليه، وتخرجوا به.
ولم يكن ذلك لخلو جَعبَة البشرية -يومئذ- فكرياً وحضارياً... كلاّ؛ فهناك فلسفة الإغريق، وقوانين الرومان، وفنون الفرس، وأساطير الهنود، وبقايا أهل الكتاب.
عن جابر بن عبداللَّه -رضي اللَّه عنهما- أن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض الكتب، قال: فغضب، وقال: «أمتهوِّكون فيها يا ابن الخطاب؟! والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية»([2]).
ثم كان الاتصال بمذاهب الأقدمين، وأساطير السابقين، واهتمام العقل فيما ليس له فيه مجال، سبباً في العنود عن منهج القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ كما كان سبباً في تحويل الإيمان من يسره وسموه إلى قضايا فلسفية، وأقيسة عقلية، ومناقشات كلامية، فلم يَعُد الإيمان الذي تزكو به النفوس، ويصفو به العمل، وتنهض به الأمة، ويحيى به المجتمع؛ فانقسمت الأمة شيعاً وأحزاباً؛ كل حزب بما لديهم فرحون.
وسمُّوا علم التوحيد ومسائل الإيمان بـ«علم الكلام» ظلماً وزوراً؛ لأن «علم الكلام» إنما هو محض عقول لم تُقَوَّم بمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما قوّمت برأي جَهْم بن صفوان، وطريقة بِشْرِ بن غِيَاث المَرِيسِيِّ، ومنهج واصل بن عطاء، المستمدة آراؤهم من طريقة أهل الكتاب، ومن رأي عبّاد الكواكب، الذين فتنوا به المؤمنين والمؤمنات عن مراد اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وخَلَفَت خُلوفٌ: فترت هممهم، وضعفت عزائمهم، فلا يفكرون إلا بعقول غيرهم؛ فعكفوا على ما ألقاه إليهم علماء الكلام وأهل الرأي في العقيدة المبنية على الفلسفة الإغريقية والمنطق اليوناني، وجمدوا على ما فيها، وهو على هذا المعنى؛ يدرّس اليوم في مدارس المسلمين ومعاهدهم وجامعاتهم([3]).
ثم شاء اللَّه أن ينهض من بين هذا الزحام أفراد من العلماء الأعلام: ينفون عن عقيدة الإسلام تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين؛ فكانوا أشد الناس تنفيراً من الكلام وأهله، ولخص موقفهم في ذلك الإمام الرباني أبو عبداللَّه محمد بن إدريس الشافعي -رحمه اللَّه-؛ فقال: «لأن يبتلي العبد بكل ما نهى اللَّه عنه سوى الشرك، خير له من الكلام، ولقد اطلعت من أصحاب الكلام على شيء ما ظننت أن مسلماً يقول ذلك»([4]).
واتفق السلف الصالح على ذلك، فقال البغوي -رحمه اللَّه-: «واتفق علماء السلف من أهل السنة على النهي عن الجدال والخصومات والصفات، وعلى الزجر عن الخوض في علم الكلام وتعلمه»([5]).
وكانت هذه ميزة للمنهج السلفي؛ فهذا مؤرخ الإسلام الحفظة الإمام الذهبي ينقل مقولة الحافظ الدارقطني: «ما شيء أبغض إلي من علم الكلام»، ثم يقول: «لم يدخل الرجل -أبداً- في علم الكلام ولا جدال، ولا خاض في ذلك، بل كان سلفياً»([6]).
وصنف أئمة السلف في مسائل العقيدة تصانيف عديدة مفيدة، على منهج الكتاب والسنة في التلقي والاستدلال؛ فسموها بـ«الإيمان»، و«التوحيد»، أو «السُّنّة»، أو «الشريعة»؛ مثل «الإيمان» لابن أبي شيبة، و«الإيمان» لأبي عبيد القاسم ابن سلاّم، و«الإيمان» لابن منده، و«الإيمان» لشيخ الإسلام ابن تيمية، و«السنة» لعبداللَّه بن أحمد، و«صريح السنة» للطبري، و«أصول السنة» للإمام أحمد بن حنبل، و«شرح السنة» للبربهاري، و«التوحيد» لابن خزيمة، و«التوحيد» لابن منده، و«شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة» للالكائي، و«الإبانة»: الكبرى والصغرى لابن بطة، و«الشريعة» للآجري -رحمهم اللَّه جميعاً-.
وبرهن هؤلاء الأئمة أن الخير كلَّه في الاتباع، والشَّرَّ كله في الابتداع؛ فكان الفهم العميق للإسلام رائدهم، واتباع سبيل المؤمنين منهجهم، فكان عملهم سياجاً حمى العقيدة من شرٍّ أُرِيدَ بها.
ثم جاء قوم([7]) زعموا: أن في أسلوب كتب العقيدة جفافاً؛ لأنه نصوص وأحكام(!) ولهذا أعرض معظم الشباب عنها، وزهدوا بها(!!).
سبحان ربي(!) آلنصوص القرآنية والأحاديث النبوية فيها جفاف؟!.
نعم؛ هي كذلك عند القوم الذين لم يفهموا العقيدة إلا تكفير الحكام وتهييج العوام، أما الذي عاش مع الكتاب والسنة، ونهج سبيل السلف الصالح؛ فإنه يعلم أن الالتزام بمثل هذه الكتب هو استمرار لذلك المنهج السني النقي الذي به تُدرك مقاصد الشرع، وتُعرف مدارك الأحكام.
إن فهم هذه المراحل التي مرت على العقيدة؛ يعين دعاة الإسلام الذين نهجوا سبيل السلف؛ في تحديد أسلوب تربية الأمة الإسلامية على العقيدة الإيمانية، حيث يتم تربية الأمة على كتاب ربها -عز وجل- وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم ضاربين بعلم الكلام -قديمه وحديثه- عرض الحائط، ثم يتعلمون نقض الشبهات؛ وتفنيد عقائد الكفر والإلحاد.
أما أن تعلم الناشئة نقض الاشتراكية الماركسية، وتفنيد المزاعم الدارونية، وتهافت العلمانية؛ دون أن يكون عندهم رسوخ في عقيدة الإسلام الصافية وأدلتها، ومن غير أن يكون لديهم تصور بيِّن لمنهج السنة النبوية في حقيقة الدعوة إلى اللَّه؛ فهذا مزلق خطير، ولا ينبئك مثل خبير.ــــــــــــــــــ
([1]) متفق عليه.
([2]) حسن بشواهده؛ كما بيّنه شيخنا أسد السنة الألباني -رحمه اللَّه- في «ظلال الجنة في تخريج السنة» (50).
([3]) إلا ما رحم اللَّه من بلاد اللَّه؛ كبلاد الحرمين الشريفين.
([4]) أخرجه ابن أبي حاتم في «آداب الشافعي» (ص182) بإسناد صحيح.
([5]) «شرح السنة» (1/226).
([6]) «سير أعلام النبلاء» (16/457).
([7]) أمثال المدعو «محمد سرور بن نايف زين العابدين» في كتابه: «منهج الأنبياء في الدعوة إلى اللَّه» (1/8) حيث قال: «نظرت في كتب العقيدة، فرأيت أنها كتبت في غير عصرنا، وكانت حلولاً لقضايا ومشكلات العصر الذي كتبت فيه -رغم أهميتها ورغم تشابه المشكلات أحياناً- ولعصرنا مشكلاته التي تحتاج إلى حلول جديدة، ومن ثم فأسلوب كتب العقيدة فيه كثير من الجفاف؛ لأنه نصوص وأحكام؛ ولهذا أعرض معظم الشباب عنها وزهدوا فيها.
وفي المقابل فلقد أعجبني أسلوب القرآن الكريم؛ لأن عرض قضايا الاعتقاد جاء فيه من خلال عرض سيرة الأنبياء وجهادهم في سبيل اللَّه ضد المشركين.
مثال: الأصنام: في كتب العقيدة تقرأ معنى الصنم لغة وشرعاً، وأنواع الأصنام، وأدلة حرمتها من الكتاب والسنة، وأقوال العلماء، وكل ما يثبت شركية الاعتقاد بها.
أما الحديث عن الأصنام في القرآن فله شأن آخر، فأنت تعرف كل ما جاء في كتب العقيدة من خلال حوار النبي مع قومه، فتارة بين لهم تفاهة الصنم لأنه لا يضر ولا ينفع، وتارة يحطم أصنامهم -كما فعل إبراهيم عليه السلام- وتارة ثالثة تشدك جرأة النبي، وقوة حجته، وثباته على الحق رغم إصرار قومه على قتله، كل ذلك يتم بأسلوب (حركي) واقعي جذاب»!!.