بسم الله الرحمان الرحيم
وبعد:
فهذا شريط مفرغ للشيخ العلامة عبيد بن عبد الله الجابري حفظه الله تعالى بعنوان أسباب النجاة من الفتن.
بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ومصطفاه الأمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد :
فالكلمة التي أوجهها إلى أبنائي قاعدتها حديث صحيح أخرجه مسلم في صحيحه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تُعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عوداً عوداً فأيُمَا قلب أنكرها نُكِت فيه نكتة بيضاء، وأيما قلب أُشْرِبَها نكت فيه نكتة سوداء، حتى تعود على قلبين؛ أبيضُ مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، وآخر كالكوز مُجَخِيَّاً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرِبَ من هواه».
هذا الحديث أصل عظيم من أصول السنة ؛ وذلك لما تضمنه من التحذير من الفتن وعاقبتها على الناس، فالفتن واقعة ولا بد، كما قال الحق جل ثناؤه: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ [آل عمران: 179] ...الآيـة ، وقد قضى الله سبحانه وتعالى وهوالحكيم العليم اللطيف الخبير الذي لا يعزُب عنه من حال هذا الكون مثقالُ ذرة في الأرض ولا في السمـاء قضى أنه سيحيا من حيّ عن بينة ويهلك من هلك عن بينـة .
والخلاصة أن هذا الحديث تضمن شيئين:
أحدهما: وقوع الفتن بشكل تتقبله كثير من النفوس، وتطمأن إليه، وتركن إليه : «تُعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عوداً عوداً»، وهذا تنبيه إلى أنّ الفتن التي تعصف بالناس عصفاً وتُحَيِّرُ الكثيرَ في أمره ويصبحُ الأمرُ مختلطاً على الناس إلا من رحم الله، تنبيه إلى أن ذلك يكون بالعرض المحبوك المُزَين المُزَخْرَف، وسواءاً كان ذلكم العرض من قبيل شياطين الجِنّ أو شياطين الأنس أو من كليهما، ولله في ذلك الحكمة الباهرة عَلِمها من عَلِمها وجهلها من جهلها لكن الذي يظهر لنا والعلم عند الله كما أسلفت في الآية أو كما أسلفته من الآية الكريمـة ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ ، فأحوال الأمن والسَّعَةِ والرخى لا يتميز أحد عن أحد وإنما الإختبار بهذه الفتن التي لا يثبت أمامها إلا من ألهمه الله رشده وهُدَاه وأتاه سداده وتقواه فهو إن تكلم تكلم عن علم وبصيرة ودراية، وإن سكت فقد حفظ عليه عرضه ودينه وسلك سبيلاً من سبل النجاة لأن الله قد كفاه بمن هم أولى منه في هذه الأمور كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ [النساء: 83]، جاء في سبب نزول هذه الآية أنه أُشِيعَ في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق نسائه فجاء عمر رضي الله عنه ودخل على ابنته حفصة فوجدها تبكي ثم ذهب إلى أم سلمة رضي الله عن الجميع فأراد الحديث معها فأغلظت له وقالت يا عمر: أما كفى في رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعظ نسائه حتى تأتي أنت ؟ وكان قريبأ منها بينه وبينها قرابة من جهة أمه فهو عَدَوِي رضي الله عنه وأمه مخزومية تجتمع مع أم سلمة في أحد الأجداد من بني مخزوم فنزلت الآية التي قَدَّمْتٌهَا آنفا فقال رضي الله عنه: أنا من الذين يستنبطونه، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أطلقت نساءك ؟ فقال : لا .
الشيء الثاني: نتيجة هذه الفتن التي جعلها الله اختباراً وابتلاءً: وهذه النتيجة ظاهرة صريحة من لفظ الحديث وذلك أن الناس ينقسمون قسمين :
قسمٌ منّ الله عزوجل عليه بالنجاة والسلامة فاستنكر الفتن ونفر منها. وقسمٌ أُشرِبها: انساق ورائها.
فالأول: أثابه الله سبحانه وتعالى بأنه لا تضره فتنة، نَجَى من الإختبار في علم الله عزوجل وفي علم الله أنه ناجٍ.
والآخر: أصبح من وَلَعِهِ بالفتن كالكوز مجخيْ ( المكبوب على وجهه على فوهته مٌنَكَّس ) لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرِبَ من هواه وهذا القسم هالك .
والسؤال يا بَنِيّ الذي أرى طرحه هنا وأرى إن شاء الله أن في الجواب عليه العلاج، فالسؤال هو: كيف يصنع المسلم حيال الفتن حتى لا تضره الفتن بعد ، أو ما سبيل النجاة الذي يسلكه المسلم حتى يسلم من الفتن ؟
أنا في الحقيقة ظهر لي بما أدركته من نصوص الشارع أمور أضعها أمامكم يا بَنِيَّ وأنتم ولله الحمد طلاب علمٍ تدركون ما ندرك وتعرفون تماماً ما نرمي إليه :
الأمر الأول: التزود من العلم، علم الشريعة، وأساس ذلك فقه العقيدة فقه التوحيد، ثم بعد ذلك فقه سائر الفرائض العملية، فإنه لا يخفى عليكم ما دَوَّنَه أئمة الإسلام في هذا الباب وجمعوا فيه النصوص ومن ذلكم: "السنة" لابن أبي عاصم، "والسنة" لعبد الله بن أحمد، "والتوحيد" لابن خزيمة، "والتوحيد" لابن مندة ، "والإبانة" لابن بطة العكبري ، "والإبانة" لأبي الحسن الأشعري ، "والأيمان" لابن مندة "والتوحيد" له، ثم بعد ذلك كُتب الأحكام فمن الحديث: الأمهات الست، وسنن الإمام أحمد، وسنن الدارقطني، ومستدرك الحاكم وغيرها من دواوين الإسلام .
والخلاصة: إن طالب العلم في حاجة إلى أن يتتلمذ على كتب السلف التي عُنِيَ مُؤَلِفُوها بنقل أصول الدين وفروعه .
الأمر الثاني: ملازمة أهل العلم، المشهود لهم بالورع والتقوى ورسوخِ القدم في العلم، والصدعِ بالحق، والدعوةِ إلى السنة فإنّ علماء الشرع هم أسعد الناس وأولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلكم لأنهم أهل ميراثه كما في الحديث الصحيح: «وإن العلماءَ ورثةُ الأنبياء، فإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورَّثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر».
الأمر الثالث: البعد عن الكتب الفكرية، وعلى رأسها كتب سيد قطب، وكتب محمد قطب، وكتب القرضاوي، وكتب الغزالي السقَّا وما شابهها، فهذه الكتب وما شابهها مما تسمى: كتب الفكر أو كتب المفكرين:
أولاً : غالبها مبني على الجهل بحقائق الشرع.
وثانياً: ما فيها من حق فهو نزر يسير مغمور بأضعافه من الباطل، وهذا الحق المغمور بأضعاف مضاعفة من الباطل، في كتب السلف ما يغني عنه ولله الحمد، فإنه لا يَنْصَحُ أحدٌ بقراءة كتب هؤلاء إلا جاهل لا يعرف حال القوم، أو هو صاحب هوى يريد أن يجر المسلمين عامة والشباب خاصة إلى الهاوية والبدع والضلالات.
الأمر الرابع : لزوم الصمت والسكوت، وترك الأمر إلى من يحسنون القول ممن هم مُجَرَّبُون في التصدي للمعضلات وحل المشكلات بما آتاهم الله من الفقه والخبرة وحسن السياسة .
وهذا يرشد إليه :
أولاً: آية النساء التي أسلفناها في مستهل هذا الحديث.
والأمر الثاني: إشارة في حديث صحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «كانت بنوا إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، ولا نبي بعدي»، وقد جعل الله سياسة هذه الأمة في العلماء، وقد مرت أحداثٌ قديماً وحديثاً: ثبت بالتجربة أن أهل العلم الراسخين الأقوياء هم ساسة الأمة، وهم أجدر بالقول في النوازل والحُكْمِ فيها، ومن تلكم الحوادث حادثة قريبة وهي حادثة الخليج فعلماؤنا وعلى رأسهم الإمام الفقيه المجتهد الأثري الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله ومعه إخوانه من أهل العلم قالوا كلمتهم مبنيةً على الأدلة من نصوص الشارع، وصاح من صاح، وصرخ من صرخ، وهيّج من هيّج، فبان ولله الحمد أن الحق مع جماعة المسلمين لا مع هؤلاء المستفزين الشاذين، وهذا الموقف يشير إليه حديث حذيفة الطويل والذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: «تلزم جماعةَ المسلمين وإمامهم».
الأمر الخامس: حينما تحدث حادثه، وتنزِل نازلة، ويقول فيها بعض أهل العلم قولا، ويسكت آخرون لا يُدْرَى ما عندهم، فالواجب على شباب الإسلام ألا يتسرعوا في الأمر فَيَسُلُّوا سِكِّيْنَ الغضب على إخوانهم، بل عليهم أن ينظروا ماذا يقول أقرانُ هؤلاء المتكلمين وإخوانُهم، فإن أقران المتكلم أو إخوانه لا بد أن يكون لهم كلام ولا بد أن يكون لهم قول ولكن ليس من المصلحة أن يعلنوه فوراً، فإذا أعلنوا ( نحن ننتظر ) قد يعلنون الموافقة قد يعلنون المخالفة ننظر، إِذنْ لماذا التسرع ؟ إلزموا الصمت، فإن كثيراً من الحوادث حينما يتكلم فيها بعض الناس تحمساً للحق ومجالدةً في سبيل الصدع به: سلوكهم هذا يفرق الصف السلفي ويجعله متناحراً متنافراً فإذا كنت أنت مع ذلك العالم أو الطائفة من أهل العلم الذين تكلموا في حادثة معينة فإنه من المصلحة ألا تشيع بين إخوانك الفرقة، فإن الساحة الآن حارة والساحة أمواج تتلاطم ومن دعاة الباطل من يصطادون في الماء العكر وينتهزون أية فرصة حتى لو تشبثوا بخيط العنكبوت في تفريق الصف السلفي، حتى نقطع الطريق عليهم: نلزم الصمت، وننظر: ماذا تكون النتيجة بين أهل العلم الذين هم أقران للطائفة أو لذلك الشخص الذين تكلموا أو الذي تكلم في حادثة معينة لاسيما إذا كان المتكلم مُجَرَّبٌ عليه الجهاد بالقلم وبالكلمة النافذة في نصرة السنة والذب عنها ودحض البدع ودحر أهلها فإن في سكوتك سلامة، فإذا تكلم بعد ذلك إخوانه وأقرانه كان في ذلك الوقت الأمر واضحاً لدى الجميع.
وإخوانه وأقرانه لن يتكلموا إلا بعد سلوك سبل متعددة:
أولاً: أن إخوانه وأقرانه ليسوا آلة في يده يلف بها يميناً وشمالاً، كيف كانوا أقراناً وإخواناً له إلا وعندهم آلة وأهلية للبت في المسألة ؟! .
وثانياً: أنهم إذا وقفوا من هذا المتكلم الذي عرفناه بصدق الجهاد والخبرة والقوة والمجالدة في سبيل السنة سوف يكون لهم به اتصالات ومدارسة معه فقد يرجع هو عن خطأ ظنه صواباً، أو خطئوه بدليل أو وافقوه بدليل، فنكون بهذه الطريق حافظنا على تماسك الصف السلفي، وقطعنا الطريق على من يصطاد في الماء العكر ويتلمس كل وسيلة يفرق بها الكلمة وينشر بها الفرقة هناك أمور تحدث بين الشباب في أنفسهم فالواجب على الشباب أن يحيلوا ما أشكل عليهم إلى مشايخهم الذين وثقوا من دينهم وأمانتهم وعرفوا رسوخهم في العلم وشهدوا لهم بالنصح أن يرفعوا قضاياهم إليهم متجردين عن العاطفة العمياء والتعصب الأحمق، ليكنْ طُلْبَةَ الجميع هو الحقُ، بهذا سيتبين أن أحدهم مخطئ والأخر مصيب لكن إذا تصافت القلوب وحسنت النية فإنه لن يكون هناك تفرق ولا تشتيت، سيكون اجتماع على الحق، زميلي أخطأ الحمد لله رجع إلى الحق، كنت مخطأً رجعت إلى الحق ولله الحمد ما صار شيء.
هذا يعني بعض ما يسر الله سبحانه وتعالى من الكلمة في هذا الموقف وقد فاجئني بعض أبنائنا وما كنت معد العدة التي تليق بهذا الاجتماع المبارك الذي أسأل الله عزوجل أن يجعله اجتماعاً مرحوماً وأن يجعل التفرق بعده تفرقاً معصوماً وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . اهـ .
سؤال:
قال المقدم : نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزيكم خير الجزاء على ما أفدتم وحقيقةً يا شيخنا الفاضل حصل في الآونة الأخيرة لمز من بعض الإخوان على أستاذنا الكبير الشيخ الفاضل ربيع بن هادي المدخلي فنريد منكم توجيهاً في ذلك يحفظكم الله تعالى ؟
فأجاب الشيخ : أقول لو كنت مكانكم يا أبنائي وأنا واثق إن شاء الله: إنه ما منكم أحد إلا ويريد الحق لو كنت مكانكم للزمت الصمت لأن الشيخ ربيعاً حفظه الله و إيانا وإياكم بالسنة وسددنا جميعاً في الأقوال والأعمال وهدانا جميعاً إلى مراشد أمورنا معروف برفع راية قوية ولله الحمد ما هانت ولا لانت ولا تنكست، بل خرجت ولله الحمد منصورة، رفعها في وجوه ضُلاَّل ومن يناصر الضُلاَّل، فأفاد منها أهل السنة قوة إلى قوتهم ونحن لا نقول إن الشيخ ربيعاً حفظه الله معصوم من الخطأ أبداً لكن حقه علينا حِفْظُ كرامته ومآزرته فيما بان لنا أنه حق، وما التبس علينا من الأمر نذهب إلى إخوانه وأقرانه فسوف ننال منهم شيئاً: إما كشف ما التبس علينا وإما إرشادنا إلى ما هو خير من الكلام، والله لو كنت مكانكم للزمت هذا . اهـ .
المصدر شريط بعنوان:
أسباب النجاة من الفتن
للشيخ عبيد بن عبد الله الجابري المدرس بالجامعة الإسلامية سابقاً حفظه الله تعالى.
[تفريغ الشريط لا يعني الإستغناء عنه]