الحمد لله ن نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعود بالله من شرور أنفسنا وسيئات اعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلاهادي له
واشهد أن لااله الا الله وحده لاشريك له ، واشهد أن محمد عبده ورسوله
اما بعد...
السلام عليكم ورحمة الله وبركايه
ايها الأحبة في الله انقل اليكم سطور مباركة من كتاب ( اغاثة اللهفان ) للأمام العلامة ابن قيم الجوزية - رحمه الله تعالى ،
قال رحمه الله : الباب العاشر في علامات مرض القلب وصحته
كل عضو من اعضاء البدن خلق لفعل خاص به كماله في حصول ذلك الفعل منه ومرضه : أن يتعذر عليه الفعل الذي خلق له حتى لا يصدر منه أو يصدر مع نوع من الاضطراب فمرض اليد : أن يتعذر عليها البطش ومرض العين : أن يتعذر عليها النظر والرؤية ومرض اللسان : أن يتعذر عليه النطق ومرض البدن : أن يتعذر عليه حركته الطبيعية أو يضعف عنها ومرض القلب : أن يتعذر عليه ما خلق له من معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه والإنابة إليه وإيثار ذلك على كل شهوة فلو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئا ولو نال كل حظ من حظوظ الدنيا ولذاتها وشهواتها ولم يظفر بمحبة الله والشوق إليه والأنس به فكأنه لم يظفر بلذة ولا نعيم ولا قرة عين بل إذا كان القلب خاليا عن ذلك عادت تلك الحظوظ واللذات عذابا له ولابد فيصير معذبا بنفس ما كان منعما به من جهتين : من جهة حسرة فوته وأنه حيل بينه وبينه مع شدة تعلق روحه به ومن جهة فوت ما هو خير له وأنفع وأدوم حيث لم يحصل له فالمحبوب الحاصل فات والمحبوب الأعظم لم يظفر به وكل من عرف الله أحبه وأخلص العبادة له ولا بد ولم يؤثر عليه شيئا من المحبوبات فمن آثر عليه شيئا من المحبوبات فقلبه مريض كما أن المعدة إذا اعتادت أكل الخبيث وآثرته على الطيب سقطت عنها شهوة الطيب وتعوضت بمحبة غيره
وقد يمرض القلب ويشتد مرضه ولا يعرف به صاحبه لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه وتألم بجهله بالحق بحسب حياته
وما لجرح بميت إيلام ،وقد يشعر بمرضه ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها فهو يؤثر بقاء الله على مشقة الدواء فإن دواءه في مخالفة الهوى وذلك أصعب شيء على النفس وليس لها أنفع منه
وتارة يوطن نفسه على الصبر ثم ينفسخ عزمه ولا يستمر معه لضعف علمه وبصيرته وصبره : كمن دخل في طريق مخوف مفض إلى غاية الأمن وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف وأعقبه الأمن فهو محتاج إلى قوة صبر وقوة يقين بما يصير إليه ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق ولم يتحمل مشقتها ولا سيما إن عدم الرفيق واستوحش من الوحدة وجعل يقول : أين ذهب الناس فلي بهم أسوة وهذه حال أكثر الخلق وهي التي أهلكتهم فالبصير الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق ولا من فقده إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا فتفرد العبد في طريق طلبه دليل على صدق الطلب
ولقد سئل إسحاق بن راهويه عن مسألة فأجاب فقيل له : إن أخاك أحمد بن حنبل يقول فيها بمثل ذلك فقال : ما ظننت أن أحدا يوافقني عليها ولم يستوحش بعد ظهور الصواب له من عدم الموافقة فإن الحق إذا لاح وتبين لم يحتج إلى شاهد يشهد به والقلب يبصر الحق كما تبصر العين الشمس فإذا رأى الرائي الشمس لم يحتج في علمه بها واعتقاده أنها طالعة إلى من يشهد بذلك ويوافقة عليه
وما أحسن ما قال أبو محمد عبدالرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة في كتاب الحوادث والبدع : حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق واتباعه وإن كان الممتسك به قليلا والمخالف له كثيرا لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبيوأصحابه ولا نظر إلى كثرة أهل البدع بعدهم قال عمرو بن ميمون الأودي : صحبت معاذا باليمن فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام ثم صحبت بعده أفقه الناس عبدالله بن مسعود رضي الله عنه فسمعته يقول : عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ثم سمعته يوما من الأيام وهو يقول : سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فصلوا الصلاة لميقاتها فهي الفريضة وصلوا معهم فإنها لكم نافلة قال قلت : يا أصحاب محمد ما أدري ما تحدثونا قال : وماذاك قلت : تأمرني بالجماعة وتحضني عليها ثم تقول : صل الصلاة وحدك وهي الفريضة وصل مع الجماعة وهي نافلة ! قال : يا عمرو بن ميمون قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية تدري ما الجماعة قلت : لا قال : إن جمهور الجماعة : الذين فارقوا الجماعة الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك وفي طريق أخرى فضرب على فخذي وقال : ويحك إن جمهور الناس فارقوا الجماعة وإن الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل قال نعيم بن حماد : يعني إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة حينئذ ذكره البيهقي وغيره
وقال أبو شامة عن مبارك عن الحسن البصري قال السنة والذي لا إله إلا هو بين الغالي والجافي فاصبروا عليها رحمكم الله فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى وهم أقل الناس فيما بقي : الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم ولا مع أهل البدع في بدعهم وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم فكذلك إن شاء الله فكونوا وكان محمد بن أسلم الطوسي الإمام المتفق على إمامته مع رتبته أتبع الناس للسنة في زمانه حتى قال : ما بلغني سنة عن رسول اللهإلا عملت بها ولقد حرصت على أن أطوف بالبيت راكبا فما مكنت من ذلك فسئل بعض أهل العلم في زمانه عن السواد الأعظم الذين جاء فيهم الحديث إذا اختلف الناس فعليكم بالسواد الأعظم فقال : محمد بن أسلم الطوسي هو السواد الأعظم وصدق والله فإن العصر إذا كان فيه عارف بالسنة داع إليها فهو الحجة وهو الإجماع وهو السوار الأعظم وهو سبيل المؤمنين التي من فارقها واتبع سواها ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا
والمقصود : أن من علامات أمراض القلوب عدولها عن الأغذية النافعة الموافقة لها إلى الأغذية الضارة وعدولها عن دوائها النافع إلى دائها الضار فهنا أربعة أمور : غذاء نافع ودواء شاف وغذاء ضار ودواء مهلك
فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي والقلب المريض بضد ذلك
وأنفع الأغذية غذاء الإيمان وأنفع الأدوية دواء القرآن وكل منهما فيه الغذاء والدواء
ومن علامات صحته ايضا : أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة ويحل فيها حتى يبقى كأنه من أهلها وأبنائها جاء إلى هذه الدار غريبا يأخذ منها حاجته ويعود إلى وطنه كما قال عليه السلام لعبد الله بن عمر كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك من أهل القبور :
فحي على جنات عدن فإنها % منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى % نعود إلى أوطاننا ونسلم وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن الدنيا قد ترحلت مدبرة وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة ولكل منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل
وكلما صح القلب من مرضه ترحل إلى الآخرة وقرب منها حتى يصير من أهلها وكلما مرض القلب واعتل آثر الدنيا واستوطنها حتى يصير من أهلها
ومن علامات صحة القلب أنه لا يزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله ويخبت إليه ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه الذي لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به فبه يطمئن وإليه يسكن وإليه يأوي وبه يفرح وعليه يتوكل وبه يثق وأياه يرجو وله يخاف فذكره : قوته وغذاؤه ومحبته والشوق إليه : حياته ونعيمه ولذته وسروره والالتفاف إلى غيره والتعلق بسواه داؤه والرجوع اليه دواؤه فإذا حصل له ربه سكن إليه واطمأن به وزال ذلك الاضطراب والقلق وانسدت تلك الفاقة فإن في القلب فاقة لا يسدها شيء سوى الله تعالى أبدا وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال عليه وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له وعبادته وحده فهو دائما يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى الهه ومعبوده فحينئذ يباشر روح الحياة ويذوق طعمها ويصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذي له خلق الخلق ولأجله خلقت الجنة والنار وله أرسلت الرسل ونزلت الكتب ولو لم يكن جزاء إلا نفس وجوده لكفى به جزاء وكفى بفوته حسرة وعقوبة .
( اغاثة اللهفان - جزء 1 - 68 ، 69 ، 70 ، 71 )