الحلقة الثالثة
عندما كنت تلميذاً في المرحلة المتوسطة ظهر عندي اهتمام بالشعر والأدب فاقتنيت مجموعة لابأس بها من الكتب والدواوين الشعرية وأذكر منها كتاب ((كليلة ودمنة)) لابن المقفع وقد قرأته في تلك الفترة وكذا ((الادب الصغير)) و((الادب الكبير)) له وكتاب ((البيان والتبين)) للجاحظ وقرأت فيه شيئاً كثيراً وأذكر أني قرأت في تلك الفترة كتاباً ضخماً في سيرة عنترة بن شداد ! أما الدواوين فقد عنيت بالشعر الجاهلي وعلى وجه الخصوص المعلقات السبع وكان عندي كتاب ((شرح المعلقات)) للزوزني وكنت كثير النظر فيه لسهولته واختصاره وعنايته بالمعنى العام للبيت, واقتنيت - كذلك - ديوان امرئ القيس, وديوان طرفة بن العبد, وعنترة بن شداد, والنابغة الذبياني, وزهير بن أبي سلمي ولبيد بن ربيعة ودواوين أخرى لشعراء جاهليين لا استحضرهم الآن, وجمعت - كذلك - بعض الدواوين لشعراء العصر الأموي فكان عندي ديوان الفرزدق, وديوان جرير, ومن شعراء صدر الإسلام ديوان حسان بن ثابت, أما الشعراء المولدون فديوان المتنبي وكنت كثير الاعجاب به والنظر فيه, وديوان ((سقط الزند)) لأبي العلاء المعري, ولم أحفل كثيراً بالشعراء المتأخرين بل الواقع أنه لم تطل رحلتي في عالم الشعر والأدب لأتعرف على كثيرين منهم إلا شاعراً واحداً اقتنيت ديوانه فسحرني شعره لقربه من لغتي وذوقي وعصري ولما لشعره من الطلاوة وصدق العاطفة وقوة التأثير وجمال الوصف وحلاوة التعبير. لا أظن أحدأ يختلف معي أنه أحمد شوقي. وتذكرت أنه كان عندي - أيضاً - ديوان لشاعر آخر معاصر كان الناس يظنون أنه خليفة شوقي - كما قيل - لولا ما دخل فيه من نظم الشعر العامي لسبب معروف لا يخفى على من اطلع على سيرة هذا الشاعر البائس مع أنه كان يجيد النظم بالفصحى وبالعامية ولو تمحض للأولى لكان له شأن آخر ذلكم هو الشاعر الرقيق أحمد رامي.
كل هذا الزخم الأدبي والمطالعات الشعرية كانت في المرحلة المتوسطة في حدود سنة (1405هـ) وسنة (1406هـ) وقد فقدت مجموعة كبيرة من تلك الكتب والدواوين وبقي منه شيء لازال عندي وفي يدي الآن ديوان عنترة مكتوب على غلافه من الداخل: عبد الحميد خليوي الرفاعي - متوسطة بن ماجد الملاح - 1405هـ - 1406هـ.
ومثله ديوان المتنبي مكتوب عليه اسمي في غلافه من الداخل وبعده عبارة: ينبع البحر 17/11/1406هـ وأظن أن هذا تاريخ شراء الكتاب.
هواية غريبة لا أدري ما الذي فجَّرها في نفسي في تلك الفترة المبكرة فجعلني اجمع تلك المجموعة من كتب الأدب ودواوين الشعر وما كان ينقصني في ذلك الوقت مع هذا الحماس والإقبال سوى شيخ متمكن أو أستاذ متمرس في علوم اللغة ينمي عندي تلك الهواية ويأخذ بيدي في عالم الشعر والأدب. فقد كنت أجد صعوبة في قراءة كثير من تلك الكتب ولا أفهم معظم القصائد ولاسيما قصائد الشعراء الجاهليين وكان ديوان الفرزدق على وجه الخصوص من أصعب الدواوين عندي كأن مفرداته مسامير مثبتة في صخر لا يرام قلعها وصدق النقاد حينما قالوا عنه إنه ينحت من صخر. على أن له قصائد سهلة تشبه قصائد خصمه جرير بل أسهل من ذلك بكثير كقصيدته المشهورة في زين العابدين التي يقول في مطلعها:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
هذا ابن خير عباد الله كلهم
هذا ابن فاطمة إن كنت تجهله
وما بقولك من هذا بضائره
والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا التقي النقي الطاهر العلم
بجده أنبياء الله قد ختموا
العرب تعرف من أنكرت والعجم
إلى آخر القصيدة ولها قصة معروفة, لكن الذي يقارن هذه القصيدة بقصائد الفرزدق الأخرى يعجب من هذا النفس السهل والأسلوب السلس الذي تميزت به هذه القصيدة والله أعلم بحقيقة الحال.
لم تطل فترة الولوع بكتب الشعر والأدب حيث جاءت بعدها مرحلة العناية بطلب العلم الشرعي وكنت وقتها طالباً في المرحلة الثانوية لكن سائلاً قد يسألني وقد رأى انغماسي بين قصائد الشعراء الجاهليين والإسلاميين والمولدين والمعاصرين000 إلى آخرة ، هل كان له أثر في إثارة العاطفة وتحريك الوجدان ومحاولة نظم الشعر ؟ فأقول: نعم. بيد أني كنت قصير النفس لا أقوى إلا على بيت أو بيتين أو ثلاثة انشدها عند بعض الأصدقاء نعم, أذكر أني نظمت قصيدة غزلية نحواً من عشرين بيتاً وأنا في الصف الأول الثانوي ثم إني تجرأت - لا أدري كيف- فعرضتها على اثنين من أساتذتي في اللغة أما الأول فأثنى عليها من جهة كونها بداية فقط ! وأما الآخر ففاجأني بإحضارها في الفصل وقراءتها ونقدها أمام الطلاب مع أني لا إخالهم فهموا منها بيتاً واحداً لا لفصاحتها وبلاغتها بل لركاكتها وعجمتها, ثم إني تبت بعد ذلك من نظم قصائد الغزل ! ويكفي أن أكون قارئاً للشعر لا شاعراً ! وإلى مقالة الجمعة القادمة إن شاء الله والسلام عليكم ورحمة الله.
الجمعة18 /3/1428هـ