بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى ، و صلى الله وسلم على نبيه المصطفى ، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى آثارهم إلى يوم الدين . و أشهد أن لا إله إلا الله و حده لا شريك له شهادة حق و يقين ، و أشهد أن محمدا عبده ورسوله بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وكشف الغمة ، و جاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين .
أما بعد :
فقد اقتنيت – منذ زمن- كتاب الشيخ عمرو عبد المنعم سليم – سلمه الله - الموسوم بـ" تيسير دراسة الأسانيد للمبتدئين... " واستفدت من دراسته أشياء .
وفي الوقت نفسه ، كنت أقيد ما يمر بي من الفوائد الحديثية في كناشة خاصة ، فوقفت على مسائل عديدة يخالف فيها الشيخ ما اشتهر عندي من تحريرات – وبالخصوص تحريرات محدث العصر العلامة الألباني رحمه الله -.
فخطر لي أن الشيخ ممن يميل إلى التفريق بين منهج المتقدمين والمتأخرين من المحدثين في تصحيح الأحاديث و تعليلها ، إلى أن وقفت على ذلك صريحا في كتابيه " منهج النقد عند المحدثين" ، و"زيادة الثقة في الأسانيد و المتون بين المتقدمين و المتأخرين" فازددت يقينا على يقين أنه على طريقة المليباري ومن يوافقه .
المهم أن هذا المنهج – أعني التفريق بين المتقدمين والمتأخرين- منهج خطير على السنة النبوية ، حتى إن العلامة الألباني- رحمه الله - كان يصفه بـ"المنهج الهدام" ، لأن أصحابه لا يسلم لهم من الاعلال حديث !
و هذا بعض ما عن لي من ملحوظات على كتاب الشيخ عمرو عبد المنعم الآنف ذكره – مع اعترافي بأني استفدت منه كثيرا - ، ذكرتها على سبيل المثال ، ولم أقصد التتبع والاستيعاب ، والله من و راء القصد ، وهو يهدي السبيل ...
o فمن ذلك قول الشيخ ( ص 14) : " فان البخاري لا يكتفي بمجرد المعاصرة ، بل يشترط السماع ، وهو شرط عنده شرط في أصل الصحة" .اهـ.
أقول :
هذا الاطلاق فيه نظر .
قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله -: (( وأما البخاري فانه لايشترطه في أصل الصحة ، ولكن التزم ذلك في كتابه الصحيح)) .اهـ. "اختصار علوم الحديث"
و لعل عمدة الشيخ – سلمه الله- قول الحافظ ابن حجر - رحمه الله - : (( ادعى بعضهم أن البخاري إنما التزم ذلك في جامعه لا في أصل الصحة . وأخطأ في هذه الدعوى ، بل هذا شرط في أصل الصحة عند البخاري ، فقد أكثر من تعليل الأحاديث في تاريخه بمجرد ذلك)) .اهـ. "النكت" (2/595):
لكن يرد قولَ الحافظ اكتفاءُ البخاري - رحمه الله – بالمعاصرة في بعض الأحاديث ، فقد نقل عنه الترمذي في "العلل الكبير" (1/188) قوله في حديث : (( هو حديث حسن ، إلا ان أبراهيم بن محمد بن طلحة هو قديم ولا أدري سمع منه عبد الله بن محمد بن عقيل أم لا ؟ !)) وكان أحمد ابن حنبل يصحح هذ الحديث.
فالصواب أن شرط البخاري في ثبوت السماع شرط كمال ، لا شرط صحة ، وهذا تحرير العلامة الألباني رحمه الله-، فانظر رده على "الهدام" المسمى بـ"النصيحة" (ص :19) .
o ومن ذلك قوله: (( فإن جهالة العين من أسباب الضعف الشديد ، ولم أر أحدا من أهل العلم نص على تقوية رواية مجهول العين ، وإنما خصوا ذلك برواية مجهول الحال )). اهـ بمعناه.
أقول :
قد نص عليه الإمام الدارقطني - رحمه الله - في تراجم عديدة ، حيث يقول في بعض الرواة :
(( شبه مجهول ، يعتبر به )) ، وأصرح من ذلك قوله في " السنن" (3/174): (( فأما من لم يرو عنه إلا رجل واحد انفرد بخبر، وجب التوقف عن خبره ذلك حتى يوافقه غيره ، والله أعلم )) .اهـ.
- و اعلم أن هذا مخصوص بما إذا كانت الجهالة في الطبقات العليا من السند ( القرون المفضلة بالخيرية) . و أما من دونهم ففيه نظر.
قال الذهبي - رحمه الله - : (( أما المجهولون من الرواة فإن كان الرجل من كبارالتابعين أو أوساطهم احتمل حديثه وتلقى بحسن الظن إذا سلم من مخالفة الأصول وركاكة الألفاظ )).اهـ. " الديوان " ( ص 374)
وقال ابن كثير - رحمه الله - : (( أما المبهم الذي لم يسم أو من سمي و لم تعرف عينه فهذا لا يقبله أحد علمناه ، لكنه إذا كان في عصر التابعين والقرون المشهود لها بالخير فإنه يستأنس بروايته ، ويستضاء بها في مواطن )). اهـ. "اختصار علوم الحديث " ( ص92) .
وسئل العلامة الألباني - رحمه الله – كما في (( مسائل أبي الحسن المصري / س13)):
فما القول في رواية مجهول العين إذا انضم إليه رواية مجهول مثله ؟
فأجاب : (( تقوي إحداهما الأخرى، بشرط اختلاف المخرج . وكذا منقطع إذا انضم إليه منقطع آخر )) [ ويقول الشيخ رحمه الله :" تارة، وتارة" وكأنه يؤكد على أهمية دراسة كل مروية] .
قوله: ((وإنما خصوا ذلك برواية مجهول الحال... وهو ظاهر مما تقدم نقله عن الحافظ ابن حجر ، ومن قبله ابن الصلاح رحمهما الله))
يظهر أن الشيخ – سلمه الله - فهم من كلام الحافظ في " النزهة" أنه لا يعتبر بمجهول العين ، لكن صنيع الحافظ في تخريجاته على العكس من ذلك تماما، فهو يعتبر بمجهول العين ، بل يعتبر بالمبهم أيضا - مع أنه أشد ضعفا من مجهول العين - ، والله أعلم .
هذا ، وقد نسب الشيخ من يعتبربمجهول العين و المبهم إلى التساهل ، فقال ( ص 255): (( فتنبه ، فإنها مسألة مهمة جدا قد تورد على الباحث و المحقق كثيرا من التساهل في التصحيح ، فالأصل الاعتدال بالتزام القواعد التي نص عليها المحققون من أئمة النقد )).اهـ.
أقول: والدارقطني رحمه الله ، - وهو من أئمة النقد المحققين- قد نص على الاعتبار بمجهول العين – كما سبق النقل عنه - ، فما رأي الشيخ عمرو عبد المنعم ؟
o ومن ذلك قوله (ص234- 235) :
واختلف في الاحتجاج بهذا الحديث [ يعني الحسن بمجموع الطرق] ، فالذي استقر عليه اصطلاح المتأخرين الاحتجاج به ، وهو بخلاف ما عليه أكثر المتقدمين - إن لم يكن جميعهم)) ...إلى آخر كلامه.
أقول :
أولا : لم يقدم الشيخ ولو نصا واحدا صريحا من أهل العلم على أن منهج المتقدمين عدم تقوية الحديث الضعيف بمثله.
و الدعاوى ما لم يقيموا عليها *** بينات أبناؤها أدعياء
ثانيا : بل نصوص الأئمة المتقدمين في تقوية الحديث الضعيف إذا جاء من غير وجه كلها تخالف ما ذكر الشيخ – سلمه الله- ! .
و من هؤلاء الأئمة :السفيانان (الثوري ، وابن عيينة) ، والشافعي ، و يحيى بن سعيد القطان ، وأحمد بن حنبل ، والترمذي ، وابن يحيى الذهلي ، و البخاري و أبو حاتم الرازي ، والنسائي.
فانظر: "الضعفاء" للعقيلي (1/15 و 4/88) ، و"الجامع" للخطيب البغدادي (2/193) ، و"المعرفة" للبيهقي (3/192) ، و"الرسالة" للشافعي ( ص:461) و"شرح العلل" لابن رجب (ص 655 ، 385 ، 420) ، و"مسائل ابن هانئ" (2/167) ، و"الكامل" لابن عدي (3/266) ، و"جامع الترمذي" (1366) ، و"النكت" لابن حجر (125 ، 139) ، و"العلل" لابن أبي حاتم (1/178) ، و"السير" للذهبي (13/213) ، و"السنن" للدارقطني (3/174) – وقد تقدم نقله - وغيرها
فكيف يقال - بعد هذا - : (( بخلاف ما عليه المتقدمون في هذه المسألة)) ؟!
ثالثا : أحال الشيخ – سلمه الله - على جزئه المسمى " الحديث الحسن بمجموع الطرق في ميزان الاحتجاج بين المتقدمين و المتأخرين" ، لكن الشبهات الموجودة فيه أجاب عنها الشيخ ابن أبي العينين في كتاب "القول الحسن" – وهو كتاب رائق ، قدم له العلامة مقبل الوادعي ، والعلامة صفوت نور الدين رحمهما الله – .
فتعقب الشيخ عمرو هذا الكتاب بكتاب سماه " نظرات في كتاب القول الحسن" ، و في هذه "النظرات" نظر كبير ، فراجع مشكورا "تصويب الأسنة لصد عدوان المعترض على الأئمة" للشيخ ابن أبي العينين .
o ومن ذلك قوله ( ص 65) متعقبا قاعدة العلامة الألباني في توثيق المستور:
" رواية الثقة عن المستور لا ترقيه بحال إلى درجة الصدوق ، إلا أن يكون الراوي عنه من العارفين بالجرح و التعديل ، ويكون لا يروي إلا عن ثقة.
وأنت كما ترى فان الشيخ - رحمه الله - لم يشترط هذا الشرط ، و إنما أطلق القول بأن يكون الراوي عنه من الثقات .
و أما الشرط الثاني ، وهو انتفاء النكارة ، فلا أظن أن هذا الشرط يقع للمستور إلا بالمتابعة .
و أما تفرد المستور بحديث ، فإذا كان المتن معروفا من وجه آخر ، إلا أن السند – لا شك- قد يكون منكرا لتفرد المستور به و عدم المتابع عليه ، ومن ثم فلا بد من اشتراط عدم النكارة في السند و في المتن جميعا ، وهذا يلزم منه وجود المتابع ، و هو ما قرره أهل العلم و الحذق و النقد .
ثم أورد تحقيق الحافظ ابن حجر رحمه الله في النزهة ( ص 107) بأن رواية المستور و نحوه لا يطلق القول بردها و لا قبولها ، بل هي موقوفة إلى استبانة حاله ...
أقول :
أما حال المستور من جهة العدالة ، فتعرف برواية جمع من الثقات عنه ، لأنه لو لم يكن عدلا لما تتلمذ له . لكن يبقى ضبطه ، فكيف يعرف ؟ بسبر حديثه وعرضه على أحاديث الثقات :
فإذا كان الغالب عليه موافقتهم عرفنا ضبطه و حفظه ،
وإذا كان في الغالب مخالفا لهم ، أو كثر تفرده بما لا يعرفونه ، أو ظهرت النكارة على مروياته عرفنا اختلال ضبطه .
فإذا ، عرفنا – بعد التتبع - ضبط هذا الراوي ، فما المانع من الاحتجاج بحديثه فيما بعد - و لو في مرتبة الصدوق- إذا لم تظهر النكارة على المتن ؟!
قال الذهبي - رحمه الله - في ترجمة مالك الزيادي من " الميزان" :
(( و الجمهور على أنه من كان من المشايخ و روى عنه جماعة ، ولم يأت بما ينكر عليه أن حديثه صحيح )).
ووافقه الحافظ ابن حجر ، لكنه خالفه باشتراط الشهرة في الراوي. قال – رحمه الله- : (( لم يصرح به أحد من أئمة النقد إلا ابن حبان ، نعم هو حق فيمن كان مشهورا بطلب الحديث و الانتساب إليه )) – كما نقله السخاوي في "فتح المغيث" (1/323) .
و أجاب الألباني – رحمه الله- على اعتراض الحافظ بقوله : (( ومن أين له الشهرة إلا برواية الثقات عنه ؟)) (مسائل ابن أبي العينين )
فإذا عرفت هذا كله تبين لك ما في قول الشيخ ((هذه القواعد قعدها المعاصرون)) من مجازفة !
قوله:(( و أما تفرد المستور بحديث ، فإذا كان المتن معروفا من وجه آخر ، فلا شك أن السند يكون منكرا ))
أقول : هذا لا يصح ، لأمرين :
الأول : أن الشواهد مزيلة للنكارة الناشئة عن التفرد .
و كلام الشيخ فيه إلغاء للشواهد جملة و تفصيلا ، وهو مبني على قوله بعدم تقوية الضعيف بمثله ، و تقدم الكلام عليه.
الثاني : أننا – بعد السبر و التتبع - قد صنفنا الراوي من حيث العدالة والضبط ، و جعلناه ممن يحتج بحديثه ، فيكون الأصل في حديثه القبول ، ولا يكون تفرده منكرا إلا بقرينة تدل على خطئه .
o و في (ص 92) : نقل عن الحافظ ابن حجر قوله في (( هدي الساري )) :
((الإمام أحمد و البرديجي و غيرهما يطلقون المنكر على الفرد الذي لا متابع له ، سواء تفرد به الثقة أو غيره )). وعلق عليه في الحاشية بقوله : " البرديجي هو البرذعي ، ونسبة القول هكذا مطلقا إلى الإمام أحمد فيه نظر"
أقول :
لم يوضح الشيخ ما يُنتقد في قول الحافظ ابن حجر- رحمه الله-
وعلى كل فما قاله الحافظ رحمه الله صحيح لا غبار عليه ، فالنكارة عند أحمد و غيره ههنا بالمعنى اللغوي ، تقتضي التوقف في حديث الفرد حتى يوافقه غيره ، وهذا – من الإمام أحمد و غيره - احتياط زائد فيما تفرد به الثقة ، وهي طريقة لم يوافقهم عليها الأكثرون من أهل الحديث - كما قال الحافظ ابن رجب رحمه الله-
o ومن ذلك قوله (ص 190):
والذي استقر عليه الأمر عند المحققين من المتقدمين الترجيح بين الروايات المتعارضة بالقرائن على الوصف الذي سبق ذكره ، و لا يعلم عن أحد منهم إطلاق القول بتقديم الرواية الزائدة على الرواية الناقصة سواء في المتن أو في السند ، بل باعتبار حفظ الرواة المحتلفين و الترجيح بينهم بالاختلاف في الضبط و العدد ، أو بالمتابعات و الشواهد...
ثم نقل قول الحافظ ابن حجر في "النزهة" ( ص71) ، ومحل الشاهد منه قوله :
((والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين كعبد الرحمن بن مهدي ، ويحيى القطان ، وأحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وعلي بن المديني ، والبخاري، و أبي زرعة ، وأبي حاتم ، والنسائي ، والدارقطني و غيرهم اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة و غيرها و لا يعرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة ))
فالجواب :
[ أن هذا المذهب المحكي عن المتقدمين - وهو الترجيح بين الزيادة و أصل الرواية - ليس في كل الزيادات ، وإنما حيث يظهر و يحتاج إلى الترجيح ، وهي الأنواع التي تظهر فيها المنافاة بين الزيادة و أصل الحديث ، كتعارض الوصل و الارسال ، و كزيادات ألفاظ في المتن تنافي أصله بوجه ما ، كما قال الحافظ ابن حجر في "النكت" (2/205) - بعد حكاية قول العلائي في أن عمل المتقدمين في تعارض الوصل و الارسال هو الترجيح - : (( وهذا العمل الذي حكاه عنهم إنما هو فيما يظهر لهم فيه الترجيح ، وأما ما لا يظهر فيه الترجيح ، فالظاهر أنه المفروض في أصل المسألة )) و إنما يحتاج إلى الترجيح حين التعارض ، أما حين لا تعارض الزيادة الأصل و لا تؤثر فيه بتقييد أو نحوه فهي على القبول كما قال الحافظ ] . اهـ.
o قوله ( ص 195) :
" وقد اهتم العلماء بنقد ما يروى عن الحفاظ من حديث الشيوخ بقارنتها مع حديث أهل الطبقة الأولى من الحفاظ ، فإذا تفردوا بشيء لم يوافقهم فيه أهل الطبقة الأولى من المقدمين في هؤلاء الحفاظ كان تفردهم عند كثير من أهل العلم مما يستنكر عليهم .
وقد أشار إلى ذلك الإمام مسلم في مقدمة (( صحيحه)) حيث يقول (1/7) :
(( فأما من تراه يعمد لمثل الزهري مع جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره ، أو كمثل هشام بن عروة ، فـحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك ، قد نقل أصحابها عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره، فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس مما قد شاركهم في الصحيح مما عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس)) ....
أقول :
قد أجاب الإمام الألباني - رحمه الله – على هذه المسألة بما فحواه :
(( الصدوق الذي يشير إليه مسلم هو على النحو الذي يقول فيه أبو حاتم الرازي: « يكتب حديثه وينظر فيه » يعني حديث هذا الصدوق بالذات تحت المجهر، فقد يلحق بالثابت، وقد يلحق بالمنكر، أقول هذا لأن الذي نراه من الحفاظ الذين جاؤوا بعد الإمام مسلم - واستفادوا من علمه وعلم أمثاله من المتقدمين - لا يلتزمون هذا الرأي التزاما دقيقا بحيث إنهم كلما رأوا رجلا صدوقا يروي عن إمام كالإمام الزهري يسقطون حديثه... ما نعلم هذا مذهبا للحفاظ المتأخرين..))
وأضاف الشيخ علي بن حسن الحلبي جوابا آخر – وافقه عليه الإمام الألباني – قال :
(( لما تكلم الإمام مسلم في هذه المسألة كانت الروايات وأخبار الشيوخ والتلاميذ مستحضرة عندهم، بينما الآن كم من الكتب لا نعلم عنها إلا أخبارا ونقولا وما شابه ذلك !، فالآن الذي يدعي أنه تفرد به هذا الصدوق أو هذا الثقة المغرب دون تلاميذ الزهري - وبالتالي يحكم على الرواية بالشذوذ- هذا حكم قاصر؛ لأنه ما اطلع على كل الروايات، فإن قال: قد اطلعت على ما بين يدي، فنقول: هذا يخالف واقع الإمام مسلم - رحمه الله – وحاله)) .
- هذا ، ويحتج بعضهم – على رد تفرد الصدوق- بقول الذهبي رحمه الله في "الميزان":
(( إن تفرد الصدوق ومن دونه يعد منكرا)) .
قال الألباني - رحمه الله- : (( إن هذا الكلام له وجهان – لمن احتج به على رد تفرد الصدوق-
الأول: أنه ليس لهم في عمومه حجة ، فهو خاص بالمكثرين.
الثاني: أنه من الناحية العملية غير مسلّم، فإن مثل هذا يحتاج فيه إلى القرائن، والممارس يحكم على رواية ذاك الراوي بما يستحق))
ويقول الألباني للسائل – وهو ابن أبي العينين - : (( وهذا ما استفدناه منكم، ويؤيد ما ذهبتم إليه قول الذهبي في « الموقظة »: وقد يعد تفرد الصدوق منكرا: و(قد) تفيد التقليل))
قلت :
جواب العلامة الألباني - رحمه الله– وهو جواب وجيه سديد - مبناه على ما نقل إليه من كلام مسلم فقط ، والواقع [ فيما يتعلق بكلام الإمام مسلم] بخلاف ذلك ..
قال مسلم رحمه الله "مقدمة صحيحه":
((وكذلك من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط أمسكنا أيضا عن حديثهم أيضا.
وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا خالفت روايته روايتهم أو لم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور مقبولة ولا مستعملة.
فمن هذا الضرب من المحدثين عبد الله بن محرر ، ويحيى بن أبي أنيسة ، والجراح بن المنهال أبو العطوف ، وعباد بن كثير وحسين بن عبد الله بن ضميرة ، وعمر بن صهبان ، ومن نحا نحوهم في رواية المنكر من الحديث ، فلسنا نعرج على حديثهم ولا نتشاغل به ، لأن حكم أهل العلم والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا وأمعن في ذلك على الموافقة لهم ، فإذا وجد كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئا ليس ثم أصحابه قبلت زيادته .
فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته ، وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة ، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك ، قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره ، فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث مما لا يعرفه أحد من أصحابهما ، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس..))
... فمن هذا النقل ، نجد أن الإمام مسلما يتكلم على طريقة الأئمة في تمييز من يقبل حديثه و من يرد ، فإذا كان في أكثر حديثه يوافق الثقات ثم انفرد بشيء قبلت زيادته ، و إما إذا كثر في حديثه الغلط فلا يقبل ما انفرد به .
و مثل مسلم لهذا الأخير بالمغفلين الذين غلبت عليهم الغفلة و فحش خطؤهم ، كعبد الله بن محرر ويحيى بن أبي أنيسة ، والجراح بن المنهال و نحوهم.
و أما الشيخ عمرو عبد المنعم فخلط بين الحكم على الراوي والحكم على المروي !
و جملة القول أن كتاب " تيسير دراسة الأسانيد" يمتاز بالعرض المبسط ، والاكثار من الأمثلة ، وهذ الذي جعل الكثير يعتمده مرجعا في تعلم دراسة الأسانيد دون أن ينـتبه لما يُـنتقد فيه .و الحق أنه يحتاج إلى مراجعة و إعادة نظر.
والأولى بطالب العلم:
• أن يحرص على اقتناء كتب العلماء الذين شابت مفارقهم في خدمة السنة النبوية وعلومها كالحافظ ابن حجر العسقلاني ، والألباني ، ومقبل بن هادي الوادعي– رحمهم الله - وغيرهم من أئمة الهدى – على حد قول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله لسائل عن أشرطة بعض الدعاة : (( أنصحك بأن تسمع أشرطة الشيخ ابن باز ، وأشرطة الشيخ الألباني و أشرطة العلماء المعروفين بالاعتدال))
• و أن يتدارس مع غيره الكتب المتخصصة في تلقين دراسة الأسانيد على المنهج الحديثي الصحيح ، ولعل من أفضلها كتاب الشيخ بكر أبو زيد " التأصيل لأصول التخريج".
• و أن يحذر المناهج الهدامة ، والأقلام المتعجلة في تضعيف ما صح من الحديث .
و بهذا ينتهي ما أردت تعليقه ، فما كان فيه من الصواب فبتوفيق من الله ، وما كان فيه من الزلل فمن نفسي ، و أسأل الله جل و علا أن لا يكلني إلى نفسي طرفة عين ، إنه و لي ذلك و القادر عليه ، والعلم عند الله سبحانه و تعالى .