مِـن مَّعِين الإمَــام أحـمد بن حنبل
رحمه الله تعالى
للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
[شريط مفرّغ] بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يهدون من ضلّ إلى الهدى، ويُنقضونهم من العمى ويحيون بكتاب الله الموتى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أعظم أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن دين الله تحريف المبطلين وتأويل الجاهلين وانتحال الضالين الذين عقدوا ألوية البدعة وماروا في الكتاب.
أحمد الله جل وعلا وأشكره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا.
أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح والقلب الخاشع.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا من العلم والعمل والهدى والسنة يا أرحم الراحمين.
أيها الإخوة هذه المحاضرة عُنونت بـ:
من معين الإمام أحمد
ويعنى بهذا العنوان أن الإمام أحمد بن محمد بن حنبل المولود سنة 164هـ والمتوفى سنة 241هـ في شهر ربيع الأول أن ما أثر عنه هي كلمات معين الذي يَرِدُه الضمآن فيرتوي ويرده الذي أثقلته الذنوب فيغتسل منها ويرده أصناف الناس فيصرفون عن ذلك مرتوين بالغين أربهم وحاجاتهم.
والإمام أحمد أجمع الناس على أنه إمام الهدى ورأس أئمة أهل السنة والجماعة، وأنّ محبته ودراسة سيرته علَم على محبة من درس لسنة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، فكان الناس في ذلك الزمن يمتحنون بمحبة الإمام أحمد، فمن أحبه فهو صاحب سنة ومن قدح فيه فهو صاحب بدعة وضلالة، وليس هذا بعجب فسيرة الإمام أحمد رحمه الله ورفع درجته سيرة من أول يوم فيها إلى آخر يوم فيها سيرة صاحب سنة وصاحب اتباع، سيرة إمام محدث فقيه عالم أمضى ليله ونهاره في طاعة الله وعبادته.
كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى مذْ كان شابا وهو يُرى عليه آثار النُّسك قال معروف الخرقي رحمه الله: رأيت أحمد ابن حنبل فتى عليه آثار النسك، فسمعته يقول كلاما جمع فيه الخير.
وهذه الكلمة وصف لهديه إذ كان فتى؛ يعني إذ كان شابا، وكان عليه آثار النسك؛ ويعني بالنسك العبادة والطاعة، والعبادة والطاعة أثرها ليس في الهيئة واللباس فقط؛ بل أثرها بالكلام والسلوك والتعبد والطاعة وإيثار الآخرة على الأولى.
ولهذا ذكروا أن الإمام أحمد قال عن نفسه: ما تزوجت إلا بعد الأربعين.
قال أصحابه لأنه كان مشغولا بالرحلة قبل ذلك، رحل إلى مكة ومنها إلى صنعاء، وله في ذلك قصة وهو أنه ذهب مع يحيى بن معين صاحبه إلى الحج وقال ليحيى: إذا فرغتُ من الحج فإني سأذهب إلى اليمن للقاء عالم اليمن ومحدثها عبد الرزاق بن همام الصنعاني -المتوفى سنة 210هـ-.
فلما وصل إلى مكة كان عبد الرزاق في الحج تلك السنة، فلقيه يحيى وعرفه، لقيه وهو يطوف فعرفه وسلم عليه، وقال يحيى لعبد الرزاق -وكان يعرفه- قال: هذا أحمد بن حنبل. فصُر به عبد الرزاق فقال: قد بلغنا عنه أنه صاحب خير.
فلما صليا ركعتي الطواف قال يحيى للإمام أحمد: يا أحمد قد ذهبت عنا مؤنة السفر إلى صنعاء، فهذا عبد الرزاق فهلم بنا نلازمه حتى نأخذ عنه الحديث. فقال أحمد ليحيى بن معين: قد مضت نيتي ولن أخلفها، فسأرحل إلى صنعاء.
وهذا من أثر الرغبة في التنسك والسعي في طلب العلم، والرحلة إلى صنعاء في ذلك الزمان ليست على سيارات فاخرة أو في طائرات ونحو ذلك، وإنما كانت من المشقة بالدرجة التي لا توصف.
لهذا معروف في هذه الكلمة: رأيت أحمد بن حنبل فتى عليه آثار النسك. وهذا في الحقيقة هو الذي ينبغي أن يكون عليه الشباب والفتيان بأنهم يعاهدون أنفسهم في إصلاحها في فترة الفتوة وفي فترة الشباب؛ لأن هذه الفترة إن لم يكن عودها على الصلاح والنسك فإنها تستعصي بعد ذلك إلا ما شاء الله جل وعلا، ومن تنسك في شبابه وفي صباه رجي له الثبات، وهذا يعني أن الانتساب غلى التدين وإلى الطاعة ليست كلمة أو انتساب هكذا بالفخر أو بالظاهر، وإنما لابد فه من التنسك لابد فيه من العبادة لابد فيه من الطاعة.
ولهذا يأتي فيما نستقبل أنّ الإمام لاقى مرة أحد أصحاب الحديث هو عبد الصمد بن سليمان، فلما أضافه في بيته وحان موعد النوم قرَّب له ماء ليتوضأ منه أو ليستعمله ونام، فلما أتى الصباح ورأى الإمام أحمد هذا الماء لم ينقص فسأله، فقال: لم أستعمل الماء. قال: صاحب حديث وليس له ورد في الليل. يعني إلى الصباح ولم تقم الليل ولم تتعبد ولم تصلّ ركعتين. قال: إني مسافر. قال: ولو كنت مسافرا. يعني أين الوتر؟ أين بعض الصلاة؟
وهذا لاشك أنه إذا كان مُهِمًّا في ذلك الزمن في التربية وفي في التوجيه فنحن بحاجة اليوم إليه في خاصة الشباب الذين يطلبون العلم أو الذين يتمسكون بالهدى أو الذين عليهم آثار الصلاح أو الذين يرغبون بالخير، لابد من قصر النفس على النسك، لابد من قصر النفس على الطاعة، والنفس إن طوعتها أطاعتك وإن تركتها فهي أمارة بالسوء.
ولهذا صح عليه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أنه قال «من يتصبر يُصبره الله، ومن يتعلم يعلمه الله، ومن يتحر الخير يعطه ومن يتوق الشر يوقه» فإن هذا الوصف لإمام أهل السنة يدل على نشوء في طاعة الله وفي التنسك حتى كان يقصر نفسه على كثير من أنواع الزهد والمساعي حتى تستقيم نفسُه على طاعة الله جل وعلا .
قال أبو داوود سليمان بن الأشعث صاحب السنن تلميذ الإمام أحمد وقد روى عنه مسائل كثيرة مطبوعة، قال فيما وصف فيه الإمام: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، لم يكن يخوض في شيء مما يخوض فيه الناس من أمر الدنيا، فإذا ذكر العلم تكلم.
وهذه الصفة لاشك أنها صفة الأئمة المتقين الذين جعلوا حياتهم جهدا فيما ينفع الناس، الذي يتكلم في كل شيء هذا ليس عليه سمت أهل العلم ولا سمت أهل الصلاح، ولذلك ينبغي أن يُعرف الرجل الصالح الذي عُلِّق قلبه بالآخرة أن يعرف بصمته إذا صمت وبكلامه إذا تكلم، فيكون كلامه في خير ويكون صمته عن شر كما قال جل جلاله ?لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ?[النساء:114].
الإمام أحمد رحمه الله إذا تكلم ربما أجتمع مع إخوانه، ربما اجتمع مع أصحابه، ربما اجتمع مع تلامذته، ربما اجتمع مع الناس فتكلموا في أنواع من الكلام؛ لكن هو لا يتكلم إذا كان كلامه في خير، وهذا الخير هو ما يعطي فيه علما أو يأمر فيه بمعروف، قال (وإذا ذكر العلم تكلم) وهذه في الحقيقة جُربت، وهو أن القلب لا يمكن أن يعي أشياء كثيرة من المتناقضات في شخصية الإنسان، فطالب العلم ينبغي له أن يوطِّن نفسه على أن يكون للعلم أولا وآخرا وأن يبتعد عن اللهو وعن إضاعة الوقت وأنه إذا فكر فكر في العلم وإذا تكلم تكلم في العلم، وهذا يعطي حياته إقبالا على العلم ورغبة فيه، ولهذا يختلف منطق فلان عن منطق آخر لم؟ لأن هذا عاش لغة أهل العلم، عاش مع الصحابة، عاش مع التابعين، عاش مع مالك والشافعي وأحمد وسفيان، عاش مع البخاري، عاش مع الأئمة كابن خزيمة وشيخ الإسلام بن تيمية، وعاش أئمة الإسلام ونطقه منطقهم لأنه يحاورهم ولأنه يغرف من بحار علمهم، أما إذا كان السماع من كل ما يتكلم فيه الناس، ويتكلم أيضا بما يسمع يقرأ ما هب ودب ويتكلم بما يقرأ، فلابد هذا أن يؤثر على قلب المسلم بعامة بل يؤثر على قلب الخاصة وطلاب العلم.
وهذا يعني أن المرء ينبغي أن يلاحظ نفسه وأن لا يجعل قلبه موردا لكل شيء، ولكن يحدد طريقه ويبين لنفسه منهجها، وثم يسلك ذلك، وأعظم المناهج منهج وراثة النبوة الذين قال فيه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «ألا إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر» لهذا ما أعظم أن يفكر المرء إذا فكر في دينه بالعلم بما ينتفع به، وإذا تكلّم تكلم في أمر ينفعه في دينه؛ في أمر بمعروف، في صدقة، في خير، في تعليم علم، في تعلم، حتى في محاوراته يكون رغبه في طلب العلم.
ولهذا يَسْمُو المرء إذا قوي على نفسه، والنفس ترغب في كل شيء فلا تجعلها كما ترغب بل اجعلها كما يطلب الله جل جلاله منك.
[الموعودي] من أصحاب أحمد ومن تلامذته الذين نقلوا عنه مسائل كثيرة، قال للإمام أحمد رحمه الله ورحمهم أجمعين قال للإمام أحمد: يا أبا عبد الله ما أكثر الداعي لك -يعني الذين يدعون لك- فالتفت إليه فقال: أخاف أن يكون استدراجا.
يقول له تلميذه وهو صادق فيما قال: يا أبا عبد الله ما أكثر الداعي لك. قال: أخاف أن يكون استدراجا.
هذه الكلمة لا تكون إلا من قلب خاف الله جل وعلا وخشي لقاه، وعلم أن القلب يتقلب، وعلم أيضا أن الدنيا ليست بشيء، وأن الآخرة هي [الباقية] أكثرنا بل كلنا إما من شاء الله إذا ذكر له ثناء الناس عليه أو دعاء الناس له فرح واستبشر وربما أعجبته نفسه، والإمام أحمد مع معالجته لنفسه قال: أخاف أن يكون استدراجا. وكلمة أخاف هذه لأجل أن قلبه جمع بين الرجاء والخوف، فهو يرجو ولكنه يخاف، وإذا سمع بشيء مما فيه ثواب للعمل قال: أخشى أن يكون استدراجا؛ يعني أن الله جل وعلا يستدرجني بذلك ليرى هل أعجب بنفسي أم لا؟ يستدرجني الله جل وعلا كما وصف ربنا جل وعلا نفسه بأنه استدرج أقواما ?سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ(*)وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ?(1) فخسروا.
فإذن هذا الذي يجب أن يكون عليه قلب الموحد، قلب المؤمن، أن يكون دائما خائفا، واليوم الكلام في فتح باب الرجاء طيِّب؛ ولكن الناس عاشوا في الرجاء، ودخلوا في الرجاء حتى قلّ أو ندر الخوف فيما بينهم كل يرجو، يرجو ثواب الحسنات وثواب الطاعات وهذا يعمل وهذا يعتمر وهذا يصلي وهذا يفعل ولها في أبواب الرجاء؛ لكن أين الخوف؟ أين الخوف من الكريم جل جلاله وتقدست أسماؤه؟ والله سبحانه وصف ملائكته لم يدخلوا تحت التكليف، الذين هم عباد نفسهم تسبيح وعملهم طاعة كما قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «قد أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك قائم أو ملك راكع أو ملك ساجد»، وصف الله الملائكة بقوله ?يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ?[النحل:50].
فإذن ليفتش كل منا نفسه مع قول الإمام أحمد هذا، أين الخوف من قلوبنا؟ فرطنا في الواجبات وكل حسيب نفسه، فأين الخوف؟ عملنا ذنوبا والله جل وعلا هو المطِّلع عليها فأين الخوف؟ فرطنا في حقوق الخلق فأين الخوف؟ فرطنا في حقوق إخواننا المؤمنين بالغيبة والنميمة والحقد والحسد والضغينة فأين الخوف من الله جل وعلا؟ يحرك كل أحد منا نفسه في عمله بالخوف؛ لأن الخوف يجلب على العبد الخشوع والخضوع والرغبة في الاستعجال للقاء الله جل جلاله.
هذه كلمة عظيمة ما أكثر الداعي لك قال أخاف أن يكون استدراجا رحمه الله ما أعظم بصيرته وما أعظم شأنه.
كان أكثر جلوس الإمام أحمد أنه كان يجلس جاعلا رأسه بين ركبتيه، وكان يقال هذه جلسة المتخشع؛ لأنه يفكر في نفسه ويفكر في مآله، لأنه يبتعد عن الجلسة التي فيها نوع تعاظم ورؤية للنفس، ولما حضرته الوفاة ورأى الطبيب بوله وكثرة الدم فيه قال هذا لا يكون إلا من قلب خائف يعني أن كثرة الخوف جعلته كذلك.
من كلماته رحمه ورفع درجته وجزاه عنا وعنكم خير الجزاء وأجزله وأرفعه أنه قال: ما أنكر العلماء من أهل السنة فهو منكر -يعني أن العلماء من أهل السنة المرجع إليه فيما ينكر وما لا ينكر-، وما أنكرته علماء السنة في أبواب العقيدة فهو المنكر، ما أنكرته علماء السنة في أبواب السلوك فهو المنكر، ما أنكرته علماء السنة في أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ يعني أن المرء لابد له أن يرجع في معرفة السنة ومعرفة المنكر وفي معرفة المعروف والمنكر إلى علماء السنة فما أنكرته العلماء من أهل السنة فهو المنكر الذي لاشك فيه.
وهذا لاشك من الإمام أحمد فيه تربية عظيمة لكل مسلم في أنه يكون دائما متبعا مقتديا بعلماء أهل السنة يعني الذين يهتمون بسنة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في أبواب التوحيد والعقيدة بجميع أبوابها وفي وصف أبواب العبادات والمعاملات وفي أبواب السلوك وفي أبواب التربية وفي أبواب التعامل والمواقف في المجتمع أو ومع الناس، هذا المرجع فيه إلا علماء أهل السنة.
وهذا يُخلي قلبك من رؤية الهوى، ويخلي قلبك من تحصيل ما رآه عقلك حسنا ومن تقبيح ما رآه عقلك قبيحا.
فلابد إذن من الاتباع لابد إذن من رجوع إلى أهل العلم إلى أهل السنة في الفتوى، ما أنكرته علماء السنة فهو منكر؛ يعني تنكر أنت بما تراه ولا [تعرِّض] أنت بما تراه بل لابد من الرجوع إلى العلماء من أهل السنة فيما تأتي وما تذر وهذا لاشك من؛ لأن علماء أهل السنة هم ورثة الأنبياء وهم الدّالون على الشريعة وهم الذين قال فيهم الإمام أحمد في خطبة كتابه: الحمد لله الذي جعل في كل زمانِ فَتْرة من الرسل بقايا من أهل العلم يهدون من ضل إلى الهدى ويبصرونهم من العمى ويحيون بكتاب الله الموتى.
فإذن هذا تقعيد في المرجعية في سلوكه، لا يكون الأمر فيما تأتي وما تذر، هل هذا منكر، ليس بمنكر، أنكر ما أنكر، هل أفعل كذا أو لا أفعل؟ هل هذا الأمر صحيح أو ليس بصحيح؟ هذا لا يكون اجتهادا يجتهد به المسلم فيما يراه؛ بل لابد فيه من الرجوع إلى علماء أهل السنة، لم؟ لأن هذه الأبواب من أبواب العقيدة، ومن أبواب الدين، فأبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كل يدعيها؛ ادعتها الخوارج وخرجوا بها على الأئمة، وادعتها المعتزلة فحسنوا بها الخروج على الأئمة، وكذلك ادعاها طوائف فخرجوا بها على الأئمة؛ لكن الشأن فيما قال علماء أهل السنة إنه السنة وما قاله علماء أهل السنة إنه المنكر.
فمن كلماته في علماء أهل السنة أنه قال: أحِبَّ أهل السنة على ما كان منهم.
يعني أن الحب يكون على السنة تحب لا على زهادة، لا على محبة دنيوية، لا على [...]، إنما الحب الحقيقي أن يكون حبا لصاحب السنة، وقد يكون صاحب السنة يعني صاحب الاعتقاد عنده بعض المنكرات ولكنه في اعتقاده وإخلاصه وتسليمه للكتاب ولسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تجد أنه قلب سليم للبدع والشبهات، ولهذا قال أحب أهل السنة على ما كان منهم، وهذا يعني بالمفهوم أن المرء يبغض أهل البدعة أيضا على ما جاء منهم، فإنهم لو جاءت منهم عبادة وجاء منهم زهد وجاء منهم بعض العلم فإنهم يبغضون لا لهذه الأمور ولكنهم يبغضون لأنهم خالفوا سنة الحبيب محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
ولهذا كان أبو الدرداء رحمه الله ورضي عنه كان يقول: يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم، كيف يغبنون سهر الحمقى وصومهم؟ ولمثقال ذرة من بر مع تقوى ويقين أعظم من أمثال الجبال عبادة من المغترين.
قال العلماء في شرح كلام أبي الدرداء هذا: أن أبي الدرداء يحبذ النائم الذي لا يقوم الليل، ويحبذ المفطر الذي لا يصوم النفل، لم؟ يقول لأن هذا مع السنة ومع اليقين هو على خير، قال: ولمثقال ذرة من بر مع تقوى ويقين أعظم من أمثال الجبال عبادة من المغترين؛ يعني أن المرء إذا كان على يقين يعني على سنة فإن عمله القليل يبارك الله جل وعلا له فيه، وأيضا قد يكون العبد مكثرا من العبادة ولكنه صاحب غرور مغتر بعادته مغتر بكثرة تلاوته مغتر بكثرة صيامه، ينظر للناس وكأنهم لا شيء لا يدري أين المآل، ولا يدري إلى ما الخاتمة، وقد قال عليه الصلاة والسلام «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها» والعياذ بالله «وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» ولذلك كان كثير من السلف إذا تذكَّر الكتاب السابق بكى وقال: قلبي معلق ماذا سبق لي؟ وآخرون إذا تذكَّروا الخاتمة في هذا الحديث (فيسبق الكتاب فيعمل بعمل أهل النار) إذا تذكروا الخاتمة بكوا ويقولون: قلوبنا معلقة بالخواتيم بماذا يُختم لنا؟ وهذا يعني أن المرء إذا تعبد فإنه يتعبد مع الخوف أن لا يقبل الله جل وعلا منه.
لهذا قال بعض السلف: ليت لي من صلاتي ركعتين متقبلتين قالوا: وكيف؟ قال: لأن الله جل وعلا يقول ?إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ?[المائدة:27].
إذن كلمة الإمام أحمد هذه تعليق لكل مسلم بأهل السنة، تعليق لكل مسلم بأهل الاعتقاد بأهل التوحيد بأهل العقيدة الصحيحة الذين لا يعارضون السنة بعقولهم، لا يعارضون السنة بأهوائهم، إلى شيء مضى عليه الدليل من كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو بيان للقرآن، أو مضى عليه فعل الصحابة أو أقوال الصحابة رضوان الله عليهم فهو الحق الذي من أخذ بغيره فهو على كفاف، وكذلك العلماء الذين اقتفوا أثرهم وعلموا في سنتهم وصاروا على هديهم.
من كلماته رحمه الله أنه قال: ما أعلم الناس في زمان أحوج منهم في طلب الحديث من هذا الزمن. قالوا له: ولم؟ قال: ظهرت البدع فلم لم يكن عنده سنة أو قال حديث وقع فيها.
لماذا يقع هذا في البدع من لم يكن صاحب سنة أو صاحب حديث لماذا؟ لأن البدع محبوبة للنفس من جهة أن البدع يعملها أصحابها لتقربهم إلى الله جل وعلا، مثل لما جاء ابن مسعود رضي الله عنه إلى قوم وكانوا مجتمعين وكان يقول أحدهم لأصحابه: سبحوا مائة، فيسبحون مائة ثم يقول: احمدوا مائة، فيحمدون مائة ثم يقول: كبروا مائة فيكبرون مائة، فبين أيديهم حصى لذلك، فأتاهم ابن مسعود رضي الله عنه لما أخبر بذلك وأنكر عليهم وقال: لَأنتم أهدى من صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أنتم على شعبة ضلالة هذه آنية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم تكسر وهؤلاء أزواجه لم يُتوفين. يعني أن العهد قريب بالنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قالوا له وكانوا من الصالحين: يا أبا عبد الرحمن الخير أردنا. ما أردنا إلا الخير، نحن نسبح، نسبح مائة نحمد مائة نكبر مائة والأحاديث التي في التسبيح والتحميد مائة في كل يوم تعلمونها، قالوا: يا أبا عبد الرحمن الخير أردنا. قال: كم من مريد للخير لم يحصله. يعني أن الأمر لابد فيه من سنة، البدع مبناها على الخير أردنا كما قال أولئك؛ يعني ما أردنا إلا الخير فكل أنواع البدع التي تراها البدع الاعتقادية في نفي صفات الله جل وعلا يقول قائل: نفينا الصفات للتوحيد. يعني أرادوا الخير، نفوا ما يستحقه الله جل وعلا من الكمالات ويقولون أردنا الخير؛ يعني أرادوا التنزيه، مثل ما سمت المعتزلة نفيهم للصفات التوحيد وآخرون سموا نفيهم للصفات التأويل، وهكذا يعني أرادوا ماذا؟ أرادوا تنزيه الرب جل وعلا؛ لكن قال ابن مسعود كم من مريد للخير لم يحصله، وهذا ولا شك قاعدة كيف ينجو المرء من هذا يتعبد بعبادة أو يستحسن عبادة أو يقر آخرين على عبادة مبتدعة، وهي في ظاهرها حسنة وقُربة إلى الله وفيها خشوع وربما فيها [...]، كيف يكون ذلك؟ لابد من معرفة السنة والحديث وكلام أهل العلم